محاولة للخروج من الشرنقة
أ د/ محمد على سلامة
مؤتمر مطروح مايو 2010عشت فى باحة من الشعر تمثلت فى أحد عشر ديواناً لمبدعين من الإقليم الزاخر بالمواهب الشعرية، وبالرغم من كثرة هذه الدواوين فإنى أظن أن هناك غيرها الكثير من الدواوين لم تصلني ما يشير إلى خصوبة التربة المنتجة لهذا الإبداع، وربما وجد مايوازيها من الإبداع السردي روايات أو مجموعات قصصية.
ومع هذه الكثرة التى تمثل عبئاً كبيراً على الكتابة إلا أنني أشعر بأنى عشت فى واحة من الشعر تتفق فيها بعض الرؤى عبر قصائد الدواوين، وتتمايز فى بعضها الآخر باختلافات نوعية سواء فى التشكيل أو فى الرؤية، فبعضها شعر تفعيلة وبعضها شعر حر أو قصائد نثرية، مما جعلني أشعر بأن الشعر لا يزال له حضوره اللافت فى المشهد الإبداعى بالرغم من سطوة السرد وكثرة الإنتاج فيه، وأشعر معها بأن الشعر له سحره وخصوصيته التى لها تأثيرها قي نفس المتلقي سواء كان قارئاً عادياً أو قارئاً متخصصاً.
وبعد الاستمتاع بالقراءة الأولى جاءت لحظة التأمل لنصل إلى قراءة منتجة، فبدت بعض الملامح العامة التى تجمع بين هؤلاء المبدعين تتمثل فيما يلى :
1- الحس الوطني والانشغال به :
فمعظم هؤلاء الشعراء يعيشون الهم الوطني ومواجعه التى تعتصره مثل الحريات، وضيق العيش، ويتراوح الوطن هنا بين الوطن الأم مصر والوطن العربى الكبير وأضرب مثالاً بلقطة من قصيدة نجوى سالم التى أهدتها إلى سعدية مفرح الشاعرة الكويتية تقول فيها.
أيتها البرتقالية المشاعر
فكي أسر مرآتك
و لا تتلفعى بالصمت
ليس حياءً أن نكتم الجرح
بلا تأوه
وليس الحذر دائماً ملجأ أمناً
من ركلات الترجيح
(ديوان فراشات بلون الذاكره لنجوى سالم ص 4)
فهي تخاطبها أن تتغلب على ما يقيد حريتها، وتناشدها أن تفك أسرها، وترفض الصمت فى مواجهة هذه القيود، ولكي تشعرها بمشاركتها وأحاسيسها وطموحاتها وآلامها تقول لها : ليس حياء أن نكتم الجرح بلا تأوه، فهي هنا تشاركها الجرح، وتطالبها بأن يتحد الصوتان فى وجه من سبب هذا الجرح أو على الأقل التعبير عن الألم بالتأوه.
وفى قصيدة مشاهد غير درامية لاستكشاف العتمة يعبر هيثم الحاج على عن غربة الإنسان فى بلده يقول :
الآن حين أجلس على طاولة فى كشري التحرير
وحيداً كالعادة
أتسمع صوت اصطكاك الملاعق
ونداءات الجرسونات
وحيداً كالعادة
أحدق
كالعادة
فى خيط الأوهام المتدلي
من رأس الرجل الجالس بجواري
حين ينظر من نافذة الدور الثانى
لبنات الشارع
(فضاء يلوذ بصاحبه لهيثم الحاج على ص10)
فبالرغم من صخب الحركة المتمثل فى اصطكاك الملاعق إلا أنه كان وحيداً كالعادة، واللفتة الدالة فى " صوت اصطكاك الملاعق " تحمل بعدين :
الأول أنه صوت وربما لم يكن حقيقة
والثانى إن كان حقيقة فإنه يدل على ما أصبح يشغل الناس وهو هم البطون الذى يعجزهم عن المشاركة الحقيقية أو حتى مجرد الإحساس بما يعانيه وهو وحيد.
ثم تجئ كلمة كالعادة لتعبر عن أن إحساس الغربة والوحدة صار ملازماً له كالعادة التى يعتادها الإنسان، بل إنه يعكسه على رأس الجالس بجواره الذى ينظر إلى بنات الشارع، وبعدها بأسطر قليلة فى صـ 11 يقول :
فأفزع ثانية
حين أتيقن
أن هذا الرجل لم يكن سوى صورتي فى المرآة
ويشاركه فى هذا الإحساس بالغربة الشاعر محمد دراز فى ديوانه " لست أعصر خمراً " تظهر بوضوح فى قصيدته " ثقب يحجم الفراغ " المزدحمة بعبارات معبرة وموحية فهو يكرر " لا أنت أنت " ولا أنت غيرك " وفى أحد مقاطعها يقول :
أنا الغريب
على ضفاف السين
أنا الغريب
على ضفاف الروح
أنا الغريب
أقيم أعواد السنابل
فى حقول الغرب حتى أنكفئ
(لست أعصر خمراً لمحمد دراز ص41)
كما تعبر نجوى سالم عن هذا الإحساس بالغربة فى ديوانها فراشات بلون الذاكرة " وفى قصيدتها بنفس العنوان تقول فى مطلعها :
أهدني كتاباً غير الذى قرأته من قبل
فإذا أثمر الشعر بين ذراعي القصيدة
تبرع بنصف تفاحك...
للفقراء،
وبنصف ذاكرتك....
للعشاق،
واغرس شموسك فىّ،
واقضم الصباح بلا توجس فما أروعه بنكهة قوس قزح !
وما أبدعك حين تكور..
اغتراباتك على اغتراباتى
وتقذف بهما حماقات الوقت،
معلنا الولوج إلى سفر جديد
(فراشات بلون الذاكرة لنجوى سالم ص 36)
وهكذا تناشده أن يكور غربته على غربتها محاولاً التغلب عليها بقذف حماقات الوقت بهما وأن يعلن التطلع إلى واقع جديد
2- إن نبرة الحزن والتشاؤم تخيم على قصائد معظم هذه الدواوين إن لم يكن كلها، وهى ناتجة من الأولى، فهم يشعرون بالرغم من تملكهم وسيلة التعبير "الشعر" التى كانت فى القديم تستخدم لإلهاب المشاعر والحماس للثورة ضد الأوضاع المتردية، فأصبحوا يرون أنها الآن وسيلة فارغة الآن من هذا التأثير، وأبرز مثال عليها " قصائد مختار عيسى " فى ديوانه " كأنه يومض لى ثم لا يكاد ينطفئ" ... وخاصة فى قصيدته الثانية " خط النسخ " إلى الشاعر محمد يوسف ثم فى القصيدة التالية لها يقول :
عود البرسيم الجاف
مشقوق..
نواة لمشمشة مثقوبة..
ساق من الخشب المجوف..
عينا امرأتى الخضراوان..
أصدقائى فى " ملتقى الثلاثاء "
أوتاري فى انتظار اللحن..
وأنا فى انتظار اللحن..
الذى لا يجيء !
(كأنه يومض لى ثم لا يكاد ينطفئ لمختار عيسى ص57)
فعود البرسيم جاف ومشقوق، ونواة المشمشة مثقوبة، وساق من الخشب المجوف، كلها دوال معبرة عن اليأس من إحداث تأثير فى المتلقي، ولذلك قال فى آخر المشهد "أوتارى فى انتظار اللحن، وأنا فى انتظار اللحن الذى لا يجيء " فاللحن المنشود وهو بالتأكيد المؤثر فى الناس لا يجيء.
ثم يأتى ديوان مصطفى عبد المجيد سليم بعنوان "بكائية الظل المقتول" وخاصة فى قصيدة "ثنائية ورسالة إلى شاعر" حيث يخيم الحزن على روح الشاعر وهو يحاول الخروج منها ولكنه ينغمس فيها.
وهنا يمكن أن أشير إلى العنوان الذى اخترته للمقال وهو "محاولات للخروج من الشرنقة" فحالة الوطن أشبه بالشرنقة التى تخرج منها الفراشات، والشرنقة ضعيفة ولكن ما بداخلها أضعف إلى أن يتقوى ويخترقها ويخرج إلى الفضاء الواسع حيث يتنسم ريح الحرية، وكثير من القصائد تشير فى مدلولها إلى تلك الحالة من الشعور بالضعف والعجز أمام هذا الوطن الذى لم يعد قوياً كما يعبر الشعراء بل تنخر فيه السلبيات، ومع هذا لا يستطيعون الخروج منه أو تحويله إلى فضاء أجمل وأرحب يعيشون فيه بكرامة وطموحات للتطوير، وهذا ينعكس عليهم بالحزن لقلة الحيلة إذ لا يملكون إلا أشعارهم وكلماتهم التى لم تعد تجدي فى مثل هذه الحالة ومن هنا تأتى الملاحظة العامة الثالثة.
3- اللجوء إلى الأسطورة أو الموروث الشعبي العربى الزاخر بالعجائبية سواء بالتناص معه ـ وهو الأكثر ـ أو باتخاذه إطارا تدور فيه القصائد، والمنشرح قليلاً، فحين يلجأ الشاعر من شعرائنا الماثلين بين أعيننا إلى مناطق بعينها من التاريخ، فإنه يتخذ من المناطق التى تحكى فترات تقدم وازدهار ورفعة مثلما يفعل مختار عيسى في قصيدته " خط النسخ " فهو يستدعى " أحمس ومحمد على وعرابى وعبدالناصر وسناء محدلى وأمل دنقل ونادي حافظ وسعد الدين حسن وعم أحمد بائع السميط بمحطة المترو ثم يختتم مقطعه بعبارة دالة :
تأخر بنا الوقت !
متى تنزل الطبعة الجديدة للأسواق ؟!
(كأنه يومض لى ثم لا يكاد ينطفئ لمختار عيسى ص41)
وهو يستدعى هؤلاء ولكن بوعي كبير منه إذ يريدهم طبعة جديدة تلائم الزمن الحاضر، ولا تقف عند ماضيهم الزاهر والمناسب لوقته، وفى إشارته إلى الوقت الحالى يذكر عم أحمد بائع السميط بمحطة المترو ليشير إلى معاناة قطاع عريض من أبناء هذا الشعب المطحون الساعى إلى لقمة العيش، ثم كذلك الطبعة الجديدة، وهكذا تجرى الاستدعاءات عبر الدواوين.
أما استخدام الاسطورة إطاراً، وكذلك الموروث الشعبى العربى العجائبى فيأتى بوضوح كامل فى ديوانين : الأول " الخروج فى النهار " لوسام جلال الدويك،حيث لجأ التاريخ الفرعونى وآثاره ليقرأ عليه واقعه فى تجربة فريدة ومتميزة سنشير إلى تميزها حينما نتعرض لإمارات التميز، والثانى هو "حكايات ألف ليلة لمحمد عبدالحميد" الذى يتخذ من ألف ليلة وليلة وحكاياتها إطاراً يضع فيه قصائده.
أما عن استلهام الأسطورة فى النص فيأتى فى مواضع كثيرة، لعل أبرزها تجربة محمد عبدالقادر فى ديوانه "سيزيف" والذى تضمن قصيدتين الأولى بعنوان "صخرتان" والثانية "سيزيف" وهى التى اتخذها عنواناً للديوان كله فى اشارة إلى أنه استلهم روح الاسطورة اليونانية " سيزيف " فى معظم قصائده، وإن لم ترد بالاسم هذا بالإضافة إلى بعض التناصات التى تثرى داخل النصوص، بعضها دينى وبعضها تاريخى، وبعضها سياسى إلى غير ذلك مما ينتمى إلى مجالات عدة.
4- بعض هذه الإبداعات ينتمى إلى قصيدة التفعيلة مثل " بكائية الظل المقتول " لمطصفى عبدالمجيد سليم، وماهر نصر فى ديوانه " فى قلة الأشياء وكثرتها " ومحمد عبدالحميد فى ديوانه " ألف ليلة وليلة " وإن كانت بعض قصائده يمكن أن تدخل فى حيز قصيدة النثر، وبعضها ينتمى إلى الشعر الحر أو قصيدة النثر مثل " نجوى سالم فى "فراشات بلون الذاكرة" وهيثم الحاج على فى " فضاء يلوذ بصاحبه " ومختار عيسى فى "كأنه يومض لى ثم لا يكاد ينطفئ" ووسام جلال الدويك فى " الخروج فى النهار " ومحمد عبدالستار الدش فى " رائحة للوطن " ومحمد دراز فى ديوانه " لست أعصر خمراً ".
بقى عملان بعد ذلك: الأول مختارات شعرية من شعر أحمد ابراهيم عيد تحت عنوان "الورد يرحل للزنازن" وهذا ينتمى إلى القصيدة الحرة، ومن شعر محمد عبدالخالق من ديوانه "هذه روحى" وهى تنتمى إلى قصيدة التفعيلة. أما الثانى فهو "سيزيف" لمحمد عبدالقادر، وهويتراوح بين القصيدة العمودية التقليدية، وبين قصيدة التفعيلة التى تلتزم كثيراً بالعروض التقليدية.
ومع هذه العلامات الدالة على اشتراكات بين المبدعين إلا أننا لا نستطيع إغفال خصوصية كل تجربة، فهذه الملامح قصدنا بها بيان ما يسم الإبداع فى فترة من الفترات، وهى سمة تتجلى فى كل عصور الإبداع الشعرى، فمنذ بدأ الشعر العربى فى الظهور،وبالرغم من تقسيم الدارسين للأدب إلى عصور إلا أن كل عصر كان يشهد ملامح مشتركة، كما كان يشهد علامات فارقة وتمايزات لكل شاعر من الشعراء، وهذا ما سنتعرض له بعد هذه الفترة لنلقى اطلالة على خصوصية كل تجربة من التجارب التى بين أيدينا، فكل واحدة منها تميزت بميزات شعرية خاصة فى التشكيل الجمالى لها، لأن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسعى إلى إثبات وجوده فى المشهد الشعرى الراهن.
ولنبدأ مع نجوى سالم فى ديوانها " فراشات بلون الذاكرة فقد تميزت تجربتها بعدة ميزات :
1- تمزج التجربة الشعرية عندها الخاص بالعام، ثم بالأعم الذى يشمل الوطن العربى كله، بل وبالآخر الذى على الشاطئ الشمالى، فهى تحاول الخروج من شرنقة هذا الوطن الذى تمتزج فيه الآلام بالآمال، وتحاول الانتصار على غربتها ثم تنطلق فى قصيدتها إلى " سعدية مفرح " إلى الهم العربى،وكذلك فى قصيدتها "عاتبة عليك أيها الفرات" التى تجلى العلاقة بيننا وبين الآخر الذى يبذل قصارى جهده لحرماننا من حقنا، تقول :
من خطوط الطول ودوائر العرض
دون أن نقرع أجراس الفزع
وننكس ما تبقى من أعلام
فى داخلنا
كلما تذكرنا أن لنا وطنا
لم نستطع الدفاع عنه ؟
أعدك فقط
أن أطفئ الأنوار كلها
(فراشات بلون الذاكرة ص21)
2- تتولد الشعرية عندها من دفقات تعبيرية تتقاطع فيها المدلولات وتتنافر أحياناً، وهنا تبرز الموسيقى الشعرية من هذه التعارضات الثنائية فى المشاهد ولنتأمل هذا المقطع من رسالة ألكترونية إلى إيزيس
" شركاء الحب والفاقة "
هكذا وصفكم زوجى العائد
مفتشاً عن هواتفكم النقالة
عن قوائم عصرية
يضيفكم اليها.،
كى يدعوكم إلى زفاف قصيدته البكر
دون أن يلعن أقلامه وأوراقه
التى أبت شرب دمائكم السوداء
قبل تحديد مساحة أحزابها
بلون ملتهب (الديوان ص12)
فمنذ البداية والعنوان الدال "رسالة ألكترونية إلى إيزيس" حيث الماضى السحيق والحاضر الواقع، ثم "شركاء الحب والفاقة" ثم "زفاف قصيدته البكر دون أن يلعن أقلامه وأوراقه " وهكذا تتوالى التعارضات المنتجة للمعنى الشعرى فى القصيدة.
3- تتنوع التشكيلات اللغوية ما بين تعبير متكامل إلى ترك فراغات وفضاءات مساحية قد تمتد إلى ثلاثة أسطر، ثم الاستخدام المعبر لعلامات الترقيم مثل علامة الاستفهام وعلامات التعجب لدرجة أنها جعلت عنوان إحدى قصائدها علامة تعجب ! القصيدة رقم 16 فى الديوان صـ68، وتمتلئ القصيدة الأخيرة من الديوان بالمساحات والفضاءات لتترك لنا مساحة من التخيل لما كانت تريد أن تقوله بحسب قدرة كل قارئ.
تتنوع التناصات ما بين التاريخى والدينى، ويتنوع التاريخى ما بين العربى والفرعونى، أما الدينى فقد جاء من ألفاظ قرآنية ونصوص دينية وغيرها من الطقوس الشعبية السائدة فى المجتمع.
ننتقل بعد ذلك إلى التجربة الثانية المتمثلة فى ديوان هيثم الحاج على "فضاء يلوذ بصاحبه " حيث تتميز تجربته بما يلى :
1- النفس الطويل مما يضفى طابعاً درامياً على القصيدة، فالقصيدة الأولى وهى بعنوان "مشاهد غير درامية لاستكشاف العتمة" تستغرق إحدى عشرة صفحة، وبالرغم من أنه يعنونها بهذا العنوان إلا أن المشاهد التى تضمنها القصيدة كلها درامية منذ انطلق الراوى يحكى رحلته والتى انتهى فيها وحيداً.
2- تنتج الشعرية عنده من هذه المفارقات التى تحتويها مشاهد قصائده مثلما فى مطلع قصيدة " حواريات قصيرة عن سندس "
تتوارين خلف الباب
وتحسين
أن هذا العالم الكرتون
قد كان محض مصادفة
ثم لا تتوقعين
فى الشوارع الجانبية
أن ترى قطة تأكل رأس أطفالها
فهى تتوارى
(فضاء يلوذ بصاحبه ص36)
هذه المفارقات القائمة بين الحلم والواقع تتجلى بداية من العناوين الدالة التى بعدها مفاتيح لقراءة القصائد مثل " بورتريه حزين جداً لنصف وجه وحيد"، فقد أضفى إلى البورتريه سمة إنسانية وهى الحزن، وهذه رؤيته للواقع، ثم يقابل ذلك بوجه غير مكتمل، وربما تدل حالة الانشطار هذه على ما ذهبنا إليه فنصف الوجه غائب فى الحلم ونصفه يتعامل مع الواقع حتى أنه لم ير من الواقع إلا ظلالاً وألواناً، ويكرس المقطع الأول هذه الرؤية يقول :
نصف وجه
كان هناك
يحاول أن يستكمل نفسه فى ضجة الميدان
عندما لم يستطع الانبهار
وحين تزاوج مع نفسه
ليبدأ انشطاراً جديداً
لم ير من رصيف الشارع
غير خطوط عبور المشاة
فانزعج
وهكذا تتكثف هذه الرؤية عبر قصائد الديوان، عناوين ومضامين وأشكالا فلا نكاد نستقر على صورة نمطية واحدة للتشكيل،بل تتعدد التشكيلات التعبيرية مما يثير ذهن القارئ فتنتفض عنه الرتابة،ويظل متحفزاً لاستكشاف الرؤى الكامنة وراء هذا التعبير.
ويواجهنا مختار عيسى بعنوان مثير لديوانه "كأنه يومض لى ثم لا يكاد ينطفئ"، فكأن هنا تثير التخيل لأنه تعبير عن الاحتمال وليس الحقيقة، فحتى الومضة،وهى لمحة من النور ليست حقيقية وبالتالى لا تكاد تنطفئ، مما يوحى بأنه الحلم الذى يبدو سراباً وضغثاً أمام الواقع المظلم الذى يشعر معه الشاعر أن بلدة اخرى تنام فى فراشه .
ويصحبنا فى رحلة معه منطلقاً من سرة الأرض، وربما كان يقصد بها مصر أم الدنيا ولكنه يغير التعبير فى مفارقة مثيرة، ولذلك تجتمع فيها كل الأشياء، العلوم والمعارف والفنون والآداب: خاصة الشعر والشعراء، ومعارض الكتب والفضائيات، وهو وجدّته فى بؤرة الحدث مما يجعل من القصيدة كرنفالاً تتعدد فيه الأصوات والحواريات.
وتتنوع تشكيلاته تبعاً لذلك ما بين سطور وكلمات ومساحات وفضاءات وأرقام وحروف، وعلامات ترقيم بكافة أشكالها، وقطع الكلمات حيث يكتفى بأل التعريف، وهناك ظاهرة أخرى تترد فى الديوان وهى ظاهرة التكرار، وعلى سبيل المثال القصيدة الرابعة فى الديوان " موسيقا لفاطمة " حيث تتكرر كلمة " أستطيع " فى السطرين الأولين من المقطع الأول "، ومثل " كذلك، وفى المقطع الثانى تكرر كلمة " كلما " وفى المقطع الثالث تتكرر عبارة يا أبى ثلاث مرات فى تتابع وتشكيل يوحى بالتكامل، ثم كلمة " تئز " أيضا بنفس التشكيل ليلح على المعنى الذى تثيره الكلمة من معاناة، وفى المقطع الرابع يتكرر الفعل " ربت " ثلاث مرات وينهيها بالفعل " ربى " ولكن بإضافة تاء التأنيث إليه فيصبح "ربت " وفى المقطع الخامس تتكرر كلمة "دائماً " وهكذا فى إطار أسلوبى معبر عن رؤية الشاعر وإلحاحه الدائم على المعانى التى يريد إيصالها لقارئه.
وأخيراً نلحظ التناصات المكونة للنص، والتى تمزج التاريخى بالدينى بالشعبى بالأجنبى ليشكل لنا نسيجاً نصاً منفتح الدوال يموج فى فضاءات رحبة من المعانى مشكلاً فى الوقت نفسه إطاراً موسيقياً أخاذاً وممكناً لحالة شعرية القصيدة.
أما وسام جلال الدويك فيأخذنا فى تجربته الفريدة بين هذه الأعمال والمتميزة عبر رحلة مثيرة، فى أعماق التاريخ السحيق لهذا البلد ذى الجذور الفرعونية ويمزجها بالطابع الإسلامى ويمزجها بالواقع المعيش، فهو يوهمنا بأنه يقرأ برديات أو نقوشاً على أعمدة معابد الفراعنة، ولتأكيد هذا المعنى فى نفوسنا يستخدم اشكال الكتابة والنقوش الفرعونية بالفعل (انظر 80.29.14.13.وإن كانت الأخيرتان تمزجان بين النقوش الفرعونية والحروف اللاتينية وهما مترجمتان)، ونظن أن الشاعر يحاول إيقاظ روح المجد التليد فينا لننفض عن أنفسنا غبار التخلف أو حالة التردى التى تغلف واقعنا المعاصر. واللافت للنظر أن الشاعر يمزج بين التعبير الفصيح والعامى بصورة مثيرة للمتعة الفنية، ولا نكاد نشعر باضطراب أو انفصال فنحن نسير فى القراءة مستمتعين بنسيج النص الشعرى، ففى قراءته للعمود الثانى يقول :
قمر مسروق من الشباك
قمر فاسد ما بيدرشى
وأنا كنت مسجون فى الورق
والكحل عامل سكتين على الخد
من كل البلاد أتى
واحداً وجميعاً
يحمل الأفق فى جواله الموثق
خلف ظهره النحيل
انا الآن راض عن الوقت الذى افلت من مقص الرقيب
(الخروج فى النهار لوسام جلال الدويك صـ21)
فالقمر مسروق وهو فاسد لا يتحرك والراوى مسجون فى سجن أوراقه، وبالطبع يبكى فينساب الكحل على خديه صانعاً ممرين ليسمح بعد ذلك بالسير فيه فيأتى من كل البلاد أفراد وجماعات أو لنقل واحداً يحمل هم الجميع على ظهره النحيل.
ومرة يأتى النص نثرياً، وفى العامية موزوناً على التفعيلة، ومرة أخرى موزوناً على العروض، واللافت للنظر أننا لا نشعر بانفصال أى جزء عن الجزء الآخر أو عن النسيج الشعرى ككل فى صورة معبرة ورؤية فنية تمزج بين أمرين : آلام الواقع المعيش، ومحاولة استرجاع الماضى فى صورته المجيدة ليستثير فينا روح النهوض وقد عبر عنها بالأسطورة التى تقول " إننى أنا الواحد المتوهج فيك أدوس على نار العالم وأجيئك.... منتشياً "
ويصحبنا محمد عبدالحميد فى رحلة عبر حكايات ألف ليلة وليلة ويصنع تشكيلاً متميزاً يحسب له، حيث يختار بعض الحكايات المنتقاة من ألف ليلة ويطرح موجزاً لها لينطلق منها فى التعبير عن أفكاره ورؤاه ويعيد صياغتها شعراً يتراوح بين الشعر الحر وشعر التفعيلة، وإن كان الأخير يغلب عليها، ولذلك جاءت قصائده مثيرة، بين إجادة التشكيل بحيث لا يظهر أثر المقدمة التى تتضمن تلخيصاً للحكاية أو نقلاً لها من المصدر، وبين تأثيرها بحيث تبدوالقصيدة وكأنها إعادة تشكيل للحكاية مما يؤثر على جماليات التشكيل الشعرى،وربما كانت بعض المباشرة سبباً فى هذا، ونضرب أمثلة لذلك :
فالقصيدة الأولى من الديوان تجرى فى الإطار الأول، حيث بدت القصيدة وكأنها تستلهم روح الحكاية،لكنها تتعامل مع الواقع المعيش، ومع الفن الشعرى نفسه، وقد ضمنها تناصات أخرى سواء من القديم أو ملفوظات الواقع الجديد، ومن هنا اكتسبت شاعريتها التى تجلت فيها.
بينما تأتى القصيدة الثانية من النوع الثانى التى تغلب عليه روح الحكاية التى تقدم لها، وواضح أن الشاعر كان متأثراً بها لدرجة كبيرة،ما جعل عناصر الشعرية فيها لا تتضح معالمها بدرجة كبيرة فيبدو المتلقى وكأنه أمام إعادة صياغة لحكاية.
ومع هذا فإن التجربة لافتة للنظر من حيث إنها أضفت بعض الملحمية والدرامية على قصائد الديوان، مما يبشر بشاعر واعد فى مسيرته الشعرية فى هذا الإطار الذى تميز به عن غيره من شعراء المجموعة التى بين أيدينا.
نصل إلى تجربة محمد عبدالستار الدش فى ديوانه " رائحة للوطن " الذى يطرح لنا تجربة أخرى متفردة، فهو يقسم الديوان إلى متن، وهوامش، وحاشية، وكل واحد من هذه الثلاثة ينقسم إلى مقاطع أو قصائد، لكل مقطع عنوان يجعله يقرأ كقصيدة مستقلة،ثم يجعله يقرأ فى تتابع مع ما سبقه، لكن المتن ينصب على نقطتين أو محورين هما: الوطن والحرية التى يفتقدها ويرى أن أبناء الوطن الأكبر يفتقدونها وقد عبر عنها بالظلام أو الليل الذى حبل كل الوجوه.
وفى الهامش الأول يطرح لنا جانباً من جوانب المشهد فمثلاً فى علاقته بمحبوبته ولكنها أحياناً تكون صورة مصر ممثلة فى هذه المحبوبة التى تنتظر فارسها ولما وجدته فى القصيدة الأخيرة من هذا الهامش فوجئت بسيارة تصدمه وتحوله إلى لا شيء، وفى الهامش الثانى تغلب روح اليأس والفقد :
وأرانى فى الأعين أعمى
أو أعرج
أو مشلولاً
وأرانى طائر فينيق
يعيش على أغنية
فقدت قيمتها فى وخز الأشياء
فما جدوى
ان يصبح كل العالم
بيتى ؟!..
وبعدها يستعرض علاقته بمن يهيمن على الساحة (ربما كان يقصد بعض المسئولين) وخدعهم ولطموه ولكنه لم يستطع فاستنجد بأمه "ربما كانت مصر"، ولكنه وجدها ترخى يديها ونصحته بألا يرد لأن كلابهم كثيرة فأحس بأنها طعنة فى ظهره على مرأى ومسمع منها.
أما الحاشية - وهى فى العرف اللغوى ما يكتب على جوانب المتن من تفسير أو تعليق - وإذا كان فى المتن يرى أن الأشعار والكلمات لم تعد تجدى، ومن ثم فإن الصمت يخيم عليه، ولكنه أيضاً لا يفيد إن غــمّ
التمسوا الصمت الرقراق الكلمات
دعونى
فأنا الصمت المقتول
على ثائرتى
(الديوان 65)
هكذا يمضى بنا محمد عبدالستار الدش مستخدماً ملكاته الشعرية البارعة منوعاً فى تشكيلاته، حتى إننا يمكن أن نقول أنه يستدعى أبصارنا قبل آذاننا وعقولنا ليدخل منها إلى عالمه، وليبحث وينقب عن رؤاه مما بين تشكيل الكلمات فى تدرج هرمى إلى ترك فضاءات أو استخدام حرف الاستدعاء " يا " وبعدها فراغ ويكرر هذا ثلاث مرات وكذلك علامة الاستفهام مع علامة التعجب وبعدها نقطتان، كل ذلك من أجل أن يجذبنا إليه لنعايش التجربة معه ونتفاعل، بل ونتواصل حول الرسالة التى يريد أن يبثها فينا.
** ننتقل إلى تجربة محمد دراز فى ديوان "لست أعصر خمراً" ومنذ البداية يفاجئنا بعنوان تناصى محوراً إياه، فالذي جاء فى القرآن الكريم " إني أراني أعصر خمراً " أما هو فلا يعصر الخمر أى لن يكون خادماً ولا ساقياً، ولن يفعل ما يسكر الآخرين بل سيحاول إفاقة من حوله.
ولكن كيف تتم الإفاقة ؟ تأتى من التركيز على الجرح بقصائد نثرية تتضح برسائل الإيلام حتى يفيق النائمون ومنذ البسملة وهى القصيدة الأولى، يقول فى أول مقطع
باسم المنسي الأسماء والمنسيين
المطموسين بخلفيات اللوحة
يرميها اللون البطل بأى عواصف
إيلام شاء (الديوان /
ثم تأتى القصيدة الثانية بعنوان " وصمت بلادى " ويجعل عنوان كل مقطع " كمنهزمين " وتليها قصيدة " ثقب بحجم الفراغ " وهى طويلة،وترد فيها جملة العنوان تناصاً مع المشهد القرآني! " كى تضحكى.. لست أعصر خمراً، إذن.. سوف يأكل من رأسى الطير، إلى هذا الحد تبلغ درجة التشاؤم فهو لا يطمع فى الحياة مثل عاصر الخمر ولكنه سوف يصلب فتأكل الطير من رأسه.
وهكذا تتوالى القصائد بعناوينها المعبرة عن حالة اليأس والألم الذى يعتصره ويحاول أن ينقله إلى المتلقى، فربما اجتمعت المشاعر المؤلمة واتحدت حول رغبة فى الخلاص " هل يصلح تفجير الشعر، لنهرب من تفجير الذات" وهما سطران من قصيدة بعنوان " منشور قديم جداً لا يعنى أحداً " وكأنه يوزع منشورات ثورية تطالب الناس بنفض الغبار أو الخروج من الشرنقة.
وتأتى تجربة مصطفى عبدالمجيد سليم فى ديوانه " بكائية الظل المقتول " لتلحظ من العنوان ما يدعم كلامنا السابق عن نبرة الحزن والتشاؤم، وهى زاخرة بالألم الوطنى، ولذلك ترد فيها قصائد عن دنشواى وغزة ورسالة مهداة إلى شاعر كبير هو بدر شاكر السياب يوافقه فى بعض مواقفه ويستدعى تنبؤاته بالواقع الأليم، كما نلاحظه يقرن بين حادثة دنشواى ومأساة غزة حيث يتحجج سفاحوها بالشرعية والدفاع عن النفس، ولا يتورعون بعد ذلك بذبح الآخرين وقتلهم، ومن هنا تأتى المفارقة. ولكي يهرب الشاعر أحياناً من هذا الظل المقتول يلجأ إلى بعض الفولكلوريات فربما وجد فيها بعض ما يزيح الهموم وينفضها، أو يذهب إلى المدينة المنورة، مدينة رسول الله " ليجد فيها بعض الراحة وبعض العزاء.
وتتنوع القصائد وأهم ما يميزها التكثيف والقصر، فلا نعثر على قصيدة طويلة، وهذا ليس قصوراً حتى لا يتصور أحد ذلك، ولكنه طابع تعبير شعري يخص هذا الشاعر المبدع، وقد اعتبرناه سمة تفرد، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا :إنه يعمد إلى ذلك القصر ليوصل الرسالة من أقرب طرقها فلا ننشغل بمتاهات القصيدة الطويلة، ولا يلجأ كثيراً إلى ملء قصيدته بالتناصات بل يورد منها ما يخدم الفكرة التى يريد أن يوصلها إلينا تعبيره الشعرى المشبع بالموسيقى الشعرية النابعة من تتابع التفعيلات لتكرس إحساساً ثورياً نابعاً من معاناة هذا الواقع.
ويفاجئنا ماهر نصر فى ديوانه " فى قلة الأشياء كثرتها " فى إهدائه برغبة فى أن يهدى ديوانه إلى الله ولكن يمنعه أنه عبد قعيد،فالتحيات لله والطيبات لله، ثم يتبعها بقوله "ولو تناسيت هذه القصائد مع نور القمر البازغ من بنى هاشم لقدمتها إليه فالسلام عليك أيها النبى " لنستشعر من هذا الإهداء من البداية أن التوجه الدينى هو الطابع الذى سيطبع قصائده.
وسنجد عناوين القصائد تدعم هذا الإحساس وهذا التوجه،ففيها " حلة خضراء " و" الأعراف " و "ن " وما لها من دلالة صوفية و " اقرأ " و " أم القرى نامت على شعر المدن " و " شهادة " و " حوار فى مقام صلنى " و " الراعى " و " علمنى شديد القوى " وهكذا تتوالى العناوين الدالة على الروح الدينية التى ينطلق منها الشاعر.
كما نرى التناصات الدينية والروح الصوفية : ففى قصيدة " حوار فى مقام صلنى فقد نويت وصلك " يبدؤها بقوله : قال الرفيق (إذا اقتربت أنا احترقت)، لك الدخول ولى المقام دخلت. حورية مقصورة فى خيمتى) وبعدها بقليل يقول من باح راح وهى حكمة صوفية تعنى الستر على من أنعم الله عليه بالوصل والمعرفة.
وهكذا يأخذنا الشاعر فى رحلة روحية صوفية عبر قصائده التى بلغت ستا وعشرين قصيدة، كلها تنضح بهذه الروح الروحانية فتميز التجربة عن غيرها.
بقيت التجربتان الأخيرتان، والأولى منهما للشاعر أحمد إبراهيم عيد بعنوان "الورد يرحل للزنازن" وكذلك الشاعر محمد عبدالخالق شربى بعنوان " هذه روحى " والأولى تجرى فى إطار قصيدة النثر وتضم تسع قصائد وإن كانت تمتزج أحياناً بشعر التفعيلة، فالقصيدة الأولى نلتمس فيها روح النثر والثانية تأتى تفعيلية مما يجعلنا مندهشين أمام هذا الخلط وإن كان هذا حق الشاعر فى أن يعبر بما يشاء فى شعره، ونلحظ أيضاً تغلغل الروح الدينية فى ثنايا قصائده، ففى القصيدة الثانية بعنوان " نزق " يقول :
وها أنت.. ثمارك لعنة تنهمر بروحى.. لتجعلنى إداماً للبكاء، فلا كان الجمال ولا مددت،ليونتك الخبيثة فى فؤادى، ولا كنت بمحرابى.. نسيجاً، ينازعنى اشتعالى وارتدادى، سأفزع منك دوماً للصلاة، أرتل "يوسفاً " بعد "النساء"
الديوان /17
إلى هذا الحد يوضح أنه أمام أزماته يلجأ للصلاة ويقرأ سورتين يكثر الحديث فيهما عن حقوق النساء وتصرفاتهن،وتجرى هذه الروح الصوفية فى القصيدة التالية لها " خروج " وما بعدها " نجوى لكف يجود" و "نجوى لنهر يعود"، وهذا بالإضافة إلى التعبيرات الدينية والألفاظ المقتبسة من القرآن أو مقولات كبار المتصوفين.
ولايخرج محمد عبدالخالق شربى فى القصائد المختارة من ديوانه " هذه روحى " عن هذا الإطار كثيراً، وإن كانت قصائده العشر المنشورة فى هذا الكتاب ويعلن ذلك بوضوح حينما يقدمها بقول الحلاج :
والله لو علمت روحى بمن علقت
وأنت حجاب القلب عن سر غيبه قامت على رأسها– فضلاً عن القدم
ولولاك لم يطبع عليه ختامه
وتجرى قصائده فى إطار موسيقى التفعيلة ويغلب عليها طابع التكثيف والقصر لدرجة أن قصيدة "شدو" لا تتخطى "7" سبعة أسطر، وكأنه يأخذنا معه عبر هذه الدفقات الشعورية الباعثة للروحانية فى نفس متلقيه.
وعلى سبيل المثال ففى قصيدة " مدى يداً " يقول فى مطلعها : "مدى يداً للروح، أو نامى على دمع الوسائد واشتكى جرحى. أنا، فالليل معراج المريد، والنجم مرصود لحال عيونه، والبال مشغول به، حتى عن الحور،التى مدت يدا،مدى يداً " المختارات /65
هذه روح صوفية تدعم الروح، والدمع والإحساس بالجرح، والليل معراج المريد ولانغماسه فى هذا الإحساس فالبال مشغول حتى عن الحور العين وهكذا تتدعم الروحانية.
آخر هذه التجارب لمحمد عبدالقادر فى ديوانه المعنون : سيزيف " والذى يضم تنوعاً بين قصائد عمودية تقليدية وبين قصائد تفعيلية مغلفة بروح الموسيقى العروضية الخليلية، وتضم اثنتين وعشرين قصيدة ويقسمها الشاعر قسمين الأول : عزف على وترى العليل، والثانى عزف على وتر الحياة.
والأول يصدره بقصيدة عمودية وتليها ست قصائد تفعيلية، ومعظمها تدور حول ذاته وأسرته معبرة عن آمال وطموحات وآلام ومعاناة، أما القسم الثانى عزف على وتر الحياة فيصدره بقصيدتين عموديتين وتأتى بقية القصائد تفعيلية، وينوع فيها بين الكون كله ومآسى غزة ومصر واغتيال الشهيد أحمد ياسين وإعدام صدام حسين، والحرب على لبنان وأطفال الحواجز، ويختتمها بقصيدتين مستوحاتين من الأسطورة الإغريقية "سيزيف" الذى عاقبته الآلهة بحمل صخرة حتى قمة جبل وكأنه يريد أن يرسل لنا رسالة تحمل رؤيته لهذا الواقع العربى الذى نعيشه من معاناة ومآس، ولا نستطيع أن نفعل معه شيئاً بل نظل مثل " سيزيف " كلما فشل فى محاولة صعود الجبل يعود من جديد ليكرر معاناته.
ولايخفى على القارئ المدقق أن يكتشف هذه الروح المعبأة بالحس الدينى غالباً والوطنى أحياناً، والهم القومى الذى يغلف الرؤية بغلاف الحزن واليأس الناتج من العجز أمام هذه الأحداث التى تمثل مهانة كبرى للإنسان العربى وتكريس عجزه عن الفعل أو حتى الحركة أو مجرد الصراخ أمام هذه الأحداث.
وفى النهاية، فإننا نستطيع أن نقول : إننا استمتعنا بهذه الواحة الشعرية وإن كانت تكرس فينا إحساساً بالهم والعجز والحزن الشديد نتيجة لهما، لكنها كانت تجارب متمايزة بالرغم من بعض الملامح العامة التى تشترك فيها.
وليعذرنا الشعراء الذين تناولناهم، حيث فرض المقام هذه الإطلالة السريعة وإن كنا نعلن أن أكثر هذه التجارب يحتاج لوقفات مفصلة لا يتسع لها المقام هنا وإلا خرج الموضوع إلى حيز الكتاب، حيث تستحق كل تجربة وقفة تأملية لاستجلاء النقاط التى أجملنا وتفصيلها على النحو الذى يبرزها، كما يتعذر لقارئ المقال الذى قد يرى أننا ظلمنا المبدعين بهذا الإجمال، ولكنها الظروف التى فرضت هذه الإطلالة، وربما أسعفنا الوقت والعمر لنقف عليها وقفة تفصيلية فى كتاب يضم هذه التجارب وقد يضيف إليها ما يقع بين أيدينا من إبداع شعراء هذا الاقليم الغنى بمواهبه الشعرية الواعدة.