الجـلاء في الذاكـرة..!
بقلم:محمد الزينو السلوم
---------------------------------------------
نيسان شهر الخير يزهو بحلته الربيعية، ويسمو بنا لفضاء الاستقلال والحرية، والسابع عشر منه كان يوم أغرّ في تاريخ شعبنا، وما اليرموك وحطين وميسلون وغيرها من الوقائع إلا ملاحم عز وبطولة وفخار خلدها التاريخ لنا ولأمتنا العربية في سجلها الزاخر بالأمجاد والسؤدد.
إن يوم الجلاء الذي نعيش ذكراه اليوم هو عيد نذكره بإجلال وإكبار، ونذكر معه شعبنا العظيم وشهداءه الأبرار الذين رووا بدمائهم الطاهرة الذكية تراب الوطن المقدس وأناروا للأجيال المتعاقبه شعلة الحرية والاستقلال.
وحتى نقف بخطاً ثابتة اليوم ونحن في عصر الصمود والتحديات، وخاصة ونحن أمام انتصارات جديدة يحققها شعبنا على العدو الصهيوني وغطرسته التي طمست بالوحل أمام صمود ومقاومة شعبنا ومناضليه، في الأمس القريب، في جنوب لبنان، واليوم في غزة، لأكبر دليل على أن ثقافة المقاومة قد أعططت أكلها، ثماراً يانعة، تزرع في قلب العدو الخوف، وتنذره بهزيمة ما بعدها هزيمة..فلا الصمت ولا الاعتدال يمنع المقاومة من متابعة مسيرتها، وخاصة وأن خلفها من يدعم صمودها، ويقف إلى جانبها، فلا غير الصمود والمقامة يحرران الأرض العربية، وما أخذ بالقوة، لا يستردّ إلا بالقوة، وكل ما يجري على الساحة حالياً عربياً ودولياً لن يثني قيادتنا الحكيمة وعلى رأسها الرئيس الدكتور بشار الأسد – حفظه الله – عن متابعة المسيرة، وقيادة السفينة إلى شواطئ النصر.
أعود إلى الجلاء في الذاكرة لأقول:استكمالاً للبحث، لا بد من العودة إلى مطلع القرن العشرين حيث كانت بلادنا العربية ترزخ تحت حكم السلطنة العثمانية .. وكان ما كان من أحداث لا أريد التعرّض لها حالياً – لغاية في نفس يعقوب – وما فعله جمال السفاح في دمشق وبيروت،ولما خططت له بريطانيا وفرنسا في اتفاقية
1
سايكس – بيكو، والجنرال غورو في دمشق،وما جرى في معركة ميسلون في 24 تموز 1920م، حيث استشهد فيها وزير الدفاع السوري يوسف العظمة، مع كثير من جنوده وأعوانه، ودخل غورو دمشق فاتحاً، واتجه إلى قبر البطل صلاح الدين الأيوبي وقال
الآن انتهت الحروب الصليبي يا صلاح الدين ..)وكان موقفاً مشيناً من قائد فرنسي من فرنسا، تأصّلت فيه روح العداوة والبغضاء للعرب بسبب نزعته الاستعمارية، فلم يدل ّ ذلك الموقف عن النبل والشهامة التي تحلّى بها القادة العرب في فتوحاتهم، والذي قال عنها فيلسوف الفرنسيين ( ما عرفت فاتحاً أرحم من العرب )وكان ما كان أيضاً: وعد بلفور المشؤوم، الذي منح اليهود بموجبه وطناً لليهود في فلسطين لخدمة أهدافهما في المنطقة ..
وفي عودة سريعة للماضي يمكن القول:لقد استطاع الشعب السوري، وبسواعد أبنائة وجهادهم وتضحياتهم، أن يتخلّص من ظلم فرنسا، واحتلالهم، فبعد أن لجأت إلى تقسيم سوريا إلى دويلات هي(دمشق وحلب واللاذقية وحمص والسويداء..)ولم تمر هذه التدابير بسلام، فقامت الثورات في طول البلاد وعرضها، وشملت المناطق السورية كلها،واشتركت فيها فئت الشعب، مدللة بذلك على وحدة الصف، والهدف، واتّسمت عمليّاتهم التي خاضوها ضد فرنسا المحتلة، في كافة مراحلها بطابع حرب العصابات، واستهدفت في معاركها المراكز العسكرية، وأرتال العدو، وتجنبوا في تلك المعارك القتال النظامي ضد قوات تفوقها بالعدد والعُدد.
ومن تلك الثورات، ثورة الشيخ صالح العلي، وثورة الشمال التي قادها إبراهيم هنانو مع رفاقه يوسف السعدون، ونجيب عويد، وإبراهيم الشغوري، وغيرهم..كما قامت الثورة في الرقة وقادها قائم مقامها رمضان باشا شلاش، وكذلك قامت ثورة في المنطقة الوسطى، وامتدّت إلى حماه، بقيادة الضابط فوزي القاوقجي، وثورة الجبل بقيادة سلطان باشا الأطرش، وبعد هذه الثورات والانتصارات، تلاقى أبطال الجبل
2
مع أحرار دمشق واتفقوا على تنسيق الخطط في الكفاح المسلح وإشعال نار الثورة الكبرى في كافة أنحاء البلاد.
كانت هذه المرحلة من تاريخ سوريا – أي مرحلة الكفاح المسلح – حيث قضى فيها الشعب ما يقرب العشر سنوات، واقترنت بنجاح باهر وأجبرت الفرنسيين على التسليم المدئي بحقوق الشعب السوري، وسمحت بإجراء الانتخابات عم 1928، وبقيام الجمعية التأسيسية، وبإعلان دستور عام 1930، وبذلك كانت أول مرحلة من مراحل الاستقلال
وأدّت هذه الثورة إلى نتائج ونجاحات فيما بعد، وإنزال خسائر فادحة بالفرنسيين، وزادت النقمة على الفرنسيين من قبل العرب قاطبة، ومن هذه النتائج السياسية للثورة
أن أدرك الشعب في سوريا أن باب الحرية لا يدق إلا بالأيادي المضرّجة بدماء العدو، لذلك ظلّ الشعر بحمل السلاح في وجه المستعمر إلى أن أقرّ بحقه في حياة دستورية صحيحة كم رأينا من قبل.
وفي أيلول 1931 أعلِن عن موعد لإجراء الانتخابات للمجلس النيابي الذي نصّ عليه الدستور الجديد، واحتجّ الشعب على الانتخابات المزيّفة، وقامت المظاهرات في المدن السورية، واجتمع المجلس النيابي فيما بعد وانتخب علي العابد رئيساً للجمهورية، رغم معارضة ومقاطعة الشعب للانتخابات(والعابد معروف بتعاونه مع العثمانيين وواشنطن باعتباره كان في السابق سفيراً لها هناك)بعدها شكّلت الوزارة برئاسة حقي العظم والتي أخذت على عاتقها الوصول لتوقيع معاهدة مع السلطة الفرنسية، واعتبر هذا ربحاً إذا ما حصل..لكن المباحثات والمفاوضات فشلت في إقرار المعاهدة، وعُيّن مفوّضاً ساميّاً فرنسياً بدل(بونسو) هو(المسيو ديمارتل)وفي تشرين الثاني عام 1933، قام بوضع معاهدة مع حقي العظم رئيس الوزراء(لم تحقق مطالب الشعب السوري في حينها، ولهذا فقد رُفِضت من قبل المجلس النيابي..وأعقبها المظاهرات
3
والمطالبة بالاستقلال والجلاء، مما أدى إلى إقالة الحكومة، وتكليف الشيخ تاج الدين الحسيني، بتشكيلها، ففعل..
وفي عام 1935 قامت السلطات الفرنسية بإغلاق مكاتب الكتلة الوطنية واعتقال بعض أعضائها، فكان الإضراب العام، ومقاومة السلطة الفرنسية، وستمر خمسين يوماً حصلت خلاله العديد من المعارك بين الوطنيين والقوات الفرنسية، وأقيلت الحكومة بعد ذلك.
في 14 آذار 1936 تم تشكيل وفداً برئاسة هاشم الأتاسي، ذهب إلى باريس لتوقيع معاهدة جديدة، ووقّعت بالفعل، لكن لم تلبث فرنسا أن نكثت بعهودها، فعاد الشعب السوري إلى النضال من جديد..بعدها عُيّن المسيو(بلو)بدلاً عن (ديمارتل)مندوباً ساميّاً، جديداً،ولم توقّع المعاهدة من قبل الحكومة الفرنسية، وتقرر العودة إلى الانتداب من جديد، فاستقالت الحكومة الوطنية المشكلة من قبل هاشم الأتاسي رئيساً للجمهوري، أما الوزارة فكانت برئاسة جميل مردم بيك، وتولّى سعد الله الجابري وزارتي الداخلة والخارجية، وشكري القوتلي وزارتي الدفاع والمالية، وعبد الرحمن الكيالي وزارتي العمل والمعارف ..ولن ما لبث أن حصل خلافات في أول وزارة وطنية استقال على إثرها شكري القوتلي، إلى أن فقدت الثقة بين الحكومة والوزارة،فاستقالت الوزارة وشكّل بعدها أكثر من وزارة، لم تستمر، فعلّق الدستور وألغي لمجلس النيابي، وعاد الفرنسيون للسيطرة على الحكم مرة ثانية.
وجرى بعدها ما جرى قبل الحرب العالمية الثانية، وبعدها..إلى عام 1945 حين التقى رئيس الجمهورية شكري القوتلي، مع الرئيس روزفلت وتشرشل وملوك العرب في مصر، وتم إقناع القوتلي بضرورة الرضوخ لفرنسا والمحافظة على مصالحها التي تتضمن إنشاء قواعد عسكرية، فرفض الشعب السوري ذلك، وحصلت اشتباكات مع القوات الفرنسية وخاصة مي حلب.
4
كل هذا جرى إلى أن نالت سوريا استقلالها في 17 نيسان 1946م، بعد أن روت الدماء الذكية الطاهرة أرض الوطن وكان الثمن غالياً، دفعه الأجداد لتنبت شجرة الحرية ويتفيّىء وينعم بها الأبناء ..!
بقي أن أقول فيما يتعلق بالجلاء أنه في هذا التاريخ بدت دمشق في لياليها شعلة من نور، وخرجت مواكب الرجال والنساء تهلل فرحاً، وطافت مواكب الجيش بالمشاعل في شوارعها، ترافقها العراضات الشعبية، وانتشرت الأفراح في كل أرجاء سوريا، مدنأ وقرى، تعبّر عن فرحها بالاستقلال والجلاء.
كما احتفلت حلب كباقي المدن السورية بالجلاء، وقامت فرق الفتوة والكشافة والرياضة بجولات واستعراضات بالرايات والمشاعل، واشتركت أحياء حلب بالطبول والأعلام.
كما وصلت وفود عربية مهنئة سورية قيادة وشعباً بالاستقلال، وسار موكب رئيس الجمهورية في سيارة مكشوفة تتقدمه الدراجات النارية،وإلى يساره رئيس مجلس الوزراء، وبجانبه الأمير فيصل بن عبد العزيز، وهاشم الأتاسي، وفارس الخوري، وغيره من رؤساء الوفود العربية..ثم تلاه العرض العسكري(موسيقى الدرك السوري، ثم موسيى الجيش، ففصائل من الدرك العربية، ثم طلاب المدرسة الحربية للجيش السوري، ثم اللواء الأول للجيش .. كما حلّقت بعض الطائرات العراقية فوق سماء العرض .. وهكذا تمّت الأفراح.
تم تأليف الوزارة في 17 نيسان 1946 برئاسة الجابري، ثم استقالت في 20 كانون أول، وشكلت وزارة برئاسة جميل مردم بيك..وهكذا كان الاستقلال والجلاء، بعد أن قدّم الشعب العربي في سورية عشرات الآلاف من الشهداء الذين قدّموا أرواحهم فداء للوطن الغالي.
وليتذكر الجميع أن في حياة الشعوب .. أيام خالدة تبقى ذكراها وأثارها حيّة في النفوس، يستمدّ من المواطنون الفخر والاعتزاز بما قدّمه السلف من تضحيات ومكتسبات، تبقى أمانة في أعناقهم، يدافعون عنها بالروح والدم كي تبقى نبراساً، مضيئاً، ينير دروب الحرية أمام الأجيال المتعاقبة.
5
وليتذكّر أيضاً:أنه في السابع عشر من نيسان عام 1946، وهو أحد أيام العروبة العظيمة، الذي تحققت فيه أماني الشعب بالاستقلال، وتكلّلت هامت أفراده بتاج العزة والكرامة، بعد أن كبتت حريته خلال قرون عدّه، من الاستعمار، قديمه وحديثه .. فقارع المستعمر بعزيمة جبارة، غير هيّاب بالمشانق ولا بالأسلحة الفتّاكة، بل قدّم التضحيات الجسام وقطف ثمرة جهاده فطرد المستعمر من أرض الوطن المقدّسة، وأجبره على النزوح عنها إلى غير رجعة، وأثبت أن الحرية تؤخذ ولا تعطى، وإن إرادة الشعوب لا تقهر.