جبران خليل جبران والتقمّص

جبران خليل جبران .. والتقمَّـــص
********

الكتاب الذى ضم المجموعة الكاملة لمؤلفات .. جبران خليل جبران

والذى قدم لها وأشرف على تنسيقها - ميخائيل نعَــــــــيْمَة

أقدم بين إيديكم ما كتب عن جبران خليل جبران :

" إن جبران ما دان يوماً بقوة الواقع وحقيقته ، ودان كل حياته

بحقيقة الخيال وســـلطانه "

ثمانية وأربعون عاماً أوّلها فى بشرّي- لبنان- وآخـرها في نيويورك من الولايات

المتحدة الأميريكية : من 1883 إلى 1931 - تلك الفسحة التى أتاحتها الأقدار

لجبران ليقول فيها كلمته . وجبران الذى كان يؤمن أوثق الإيمان بالتقمّص ما كان

يحسب ولادته فى شمال لبنان مصادفةً عـــمياء . بل كان يعتقدها نتيجة لازمة لحياة سابقة

ففى تلك البقعة الغنيّة بمفاتنها الطبيعية وذكرياتها الدينيّة ثروة من الجمال الذى لم يكن بدّ

لعين جبران من أن تكتحل به ولروحه من أن تستحمّ فى بهائه . وقد أغترف جبران من تلك

الثروة فى صباه قبل أن يهجر لبنان إلى بوسطن سنة 1894 ، ثمّ فى شبابه يوم عاد

ليدرس فى مدرسة الحكمة البيروتية بين1896 و 1901 ، وأغترف ما يكفيه مؤونة العمر.

ثم راح ينثر بقلمه وبريشته ما أغترفه من ذلك الجمال ،

وينثره بلباقة الفنـّان الأمين لقـنـّـه وسخـاء الشـاعر المثقل بالشعـــــــــــور .

فأنت تشتمّ .. طيوب لبنان- وتستشعر سحر أعاليه وأغواره ، وتحس جماله فى كل

ما تقرأه له .

ومن بواكير قلم جبران خليل جبرانمقال فى الموسيقى أصدره 1905 فى نيويورك فى

شكل كتيب وأخـتُتمت مؤلفاته بكتابه الإنجليزي ( التائه ) المنشور بعد وفاته

وننتقل بك إلى قصيدة " المواكب " لتى أصدرها جبران 1919 على نفقته الخاصة

فى حلّة أنيقة وزيَّنها بطائفة من الرسوم البديعة .

فهى تمثل ناحية جديدة من بيان جبران المتعدّد النواحى ، وهى المرة الأولى والأخيرة

التى اختار جبران فيها أن يتقيدّ بالوزن والقافية لخلق عمـل فنـّي له شأنه.

فقد سبق له أن نظم القليل من الشعر الموزون فى حالات عاطفية طارئة .

أمّا فى هذه القصيدة فيلجأ جبران إلى فكره قبل قلبه وينبرى يسوق إليك خواطر فلسفية

فى أهمّ شؤن الحياة البشرية كالخير والشر والدين والحق والعدل وغيرها .

تياران فى القصيدة
_________

يجريان فى إتجاهين متعاكسين . وليس من صلة بينهما إلاّ التى يقيمها

خيال الشاعر فى وجدان القارىء .

والقصيدة فى تيارها الأوّل من البحر البسيط ، وفى الثانى من مجزوء الرمل .

والتياران يبدوان كما لو كانا حواراً بين شخصين . ولكنهما ليسا كذلك .

بل جلّ ما في الأمر أنّ الأوّل يمثـّل الحياة بظاهرها القبيح وباطنها الجميل ، والثاني

يمثلها وحـدّة روحيـّة لا باطن لها ولا ظاهر . الأوّل يتبرمّ بما فى الحياة البشرّية من رياء

وضعف وذلّ وقلق ونضال دائم بين الخير والشر . والثانى يمجّ الحياة في " الغاب "

حياة الفطرة والسليقة - حيث لا خير ولا شرّ بل إستسلام كامل إلى المشيئة العاقلة

المدبرّة التى تتسامى فوق الشرّ والخير .

فالصوتان ليسا سوى صدى النزاع الداخلى فى نفس جبران ما بين إيمانه بفطرة الإنسان وبين

ما يبصره فى حياة الناس من بشاعة ورجع وتشويش .

يفتتح الصوت الأوّل القصيدة بأبيات فى الخير والشر ثم ينتقل بك إلى الحياة فالدين

فالعدل ، الحق ، العلم ، الحرية ، اللطف ،

الحب فالجنون والسعادة ثم الروح الجسد فالموت .

يقول فى الحق :

" والحقّ للعزم والأرواح إن قويتْ *** سادت وإن ضَعفتْ حـلّـت بها الغِيَرُ

وفى الزرازير جـــبنُ وهىّ طائرةُ *** وفي البزاةِ شــموخُ وهــىّ تحتضرُ "

وقال فى الحــــرية

" والحرّ في الأرِّض يبني من منازعـه ** سجناً له وهو لا يدري فيؤتَسرُ "

وفى الحب قال :

" والحبّ إن قادتِ الأجسـامُ موكبهُ *** إلى فراشٍ من اللـــّذاتِ يَنتحــــــرُ "

وفى السعادة قال :

" وما السعادة فى الدنيا سوى شبَحٍ *** يُرجى فإن صار جسماً مَلّهُ البَشرُ "

أما الصوت الثانى فتسمعه فى نهاية كلّ جولة من جولات الصوت الأول ..

فإن تبرّم الأوّل بحزن أو بعبودية أو بجهل ، وإن تحدث عن الحقّ والعدل

والسعادة والموت والحياة وما إليها . إنبرى الثانى يقول أن " ليس فى الغابات "

شيء من ذلك . وهو جدّ ولوع بالنفخ في الناي الذى يتخذ من أنغامه رمزاً للخلود.

" أعطنى الناي وغَنِّ فالغِنا خـيرُ الشّـرابْ

وأنيِنُ النّـــاي يبَقـَى بعـدَ أن تفَنى الهِضابْ

وينتهى الصوت الأول بنشيد جميل يخاطب فيه الصوت الأوّل

فيقول في جملة ما يقول :

" ّهلْ تحمـّمْتَ بعِـطـْرٍ وتـَنشَــّفـتَ بنـُـــــــورْ

وشربتَ الفـَجـَر خـَـمراً في كؤوسِ من أثِير ؟


هل فرَشتَ العُشبَ لـَيلاً وتـَلـَحفّتَ الفــَضَــــــا

زاهـِـــــداً في م سـَيأتي ناسـياً ما قَدْ مضَـــى ؟"


والعجب لجبران الذى ينتهى إلى الإستسلام للأقدار وهو

النافخ في بوق التمرد والعصيان !

ولكن أقوى الناس شكيمة ، وأبعدهم هدفاً وأسماهم فكراً ،

تصدمهم مادية وروحية صدمات عنيفة يميد لها كيانهم إلا أنه لا ينهار .

وجبران وإن كتم شكواه ، كان يلاقى الكثير فى عالم لاهٍ عن اللباب بالقشور ،

وعن النور بالظلّ.

فينتهى بالقصيدة إلى قناعة لديه تقول :

" إنـمَّا النـّاس سـُطـُور *** كُـــتبَتْ لكِــــنْ بمــَـاءْ "


مع أحــــــــــلى أمنيــــــاتى

وداد الهـــــــــــــوارى

الأديبة وداد الهواري..المتألقة دوماً..
تحية الحب والحرية والإبداع..وبعد:
كل الشكر لك سيدتي على هذا المشاركة المفيدة والبديعة بكل المقاييس بالشكل والمضمون..وهي دليل وعي ثقافي والإبداعي..!
خبر سار:سأزور القاهرة في 5/5 إن شاء الله وقد أرسل لك الأخ سلوم سلوم كتاب(تغاريد وهمسات) معي..سيصلك إن شاء الله..!
تحياتي
وإلى اللقاء.؟!

الزميلة وداد الهواري

كل ما تقدم جدير بالاحترام والتقدير ينم عن مجاهدة في سبيل التنوير والتوعية بتراثنا الثقافي وكذا يروي اهتمامك بقضية وما اروع ان يحيا الواحد منا باحثا في شأن ما خصوصا وان كان متعلقا بثقافة وتنوير وفي هذه الايام الغريبة بالذات حيث وجد التغريب من كبار مثقفينا المروجين له والمدافعين عنه ما احوجنا لمعاودة التدقيق في تفصيلات تعني اصولنا وجذورنا العريقة التي علمت الدنيا والضاربة في التاريخ...
وداد الهواري ...
اشكر لك هذا الجهد الذي لا يوافيه شكر وتحياتي.