بابا نويل يموت أحيانا !

بابا نويل .. يموت أحيانا !
محمد بكرى
احكم رباط حذائه الكبير وانحنى يثبت علي جانبيه حلايا معدنية صفراء، فقاربت لحيته البيضاء أرضية الغرفة الخضراء.. وفي تؤدة يستكمل أزرار معطفه الأحمر ويتحسس بأصابعه السمينة الكيس البني الضخم الذي انفق في مؤنته 3 شهور ،، وللحظات استعدل طرطوره المتهدل وراح يصف على ذراعيه علامات المرور الزاهية لتبرق مع بياض فوديه ولحيته المستعارة .. ولدقائق راح يستعيد خريطة الأصدقاء الذين سيزورهم .. وابتسم ! كان يعلم جيدا أن منظره العام بلغ من الشذوذ منتهاه واهم ما فيه أنها لم تكن ليلة 31 ديسمبر من أي عام !! أعاد في سره سيناريوهات الزيارات والردود المختلفة لأي أسئلة مستفزة قد ترحب بظهوره الغير متوقع ! اكمل زينته، واخفي في ياقة معطفه الواصلة لنصف ظهره "كاسيت" ترانزيستور ولف بإصبعه سلك رفيع ليتحكم في الصوت.. لتكون خلفية موسيقية غريبة تدفعه لمواجهة المواقف المتوقعة بأقل قدر من دراما الغرباء ! لم ينس ذخيرته من الشكولاته وتمم على الحزام الأسود العريض الذي يحضن لفائف السيجار الرفيع ( فينكسر لضغط بطنه عليه، ليشرب ربع سيجار ..على سبيل المنع المتدرج للتدخين!!)
ولكنه كان مؤمنا بالزيارة والدور وأهمية ملابسه في نقل إحساسه لأصدقائه المختارين.. وبهدوء انسل من غرفته .. فالردهة .. فشقته، إلى أن مر كالشعاع السمين من دلفة الباب الخشبي العريض .. ليرتمي على أرضية الشارع يسوقه إلى سيارته العجوز..

لحسن الحظ كانت الساعة تقارب 12 مساءا وعادة الناس أن تقر في ملابسها، خلف الأبواب، بين المقاهي أو تحت الأغطية .. كانت الطرقات قفر من الأنفاس إلا من النظرات المتلصصة من النوافذ، زجاج السيارات.. ومع ذلك كان حمار الرداء يفرض نفسه على بقع الليل السوداء .. فكنت تراه يتحرك بخفة منتقصا منها فراغ هضبي يحتله الكيس البني الضخم.

لم يستغربه مقعد سيارته وتذكر ليلة "الفارس المقنع" وصياح الأهالي الذين وسموا الزجاج الخلفي بالحجارة بعدما أنقذ الفتاة من الضرب والاعتداء! وصدرت عن الموتور حشرجة معتادة في بدايات (ليالي الوحي) .. هكذا كانت أجزاء السيارة تسمي هذه الأمسيات! وتوقعت الكنبة الخلفية زيارات جديدة تهان فيها بالأقدام والشفاه! عموما كانت (ليالي الوحي) للسيارة من الذكريات المدهشة التي تحرص عليها لتبثها لأي مالك جديد قد ينقذها من قائدها المجنون!

ثبت قائمة الأصدقاء على التابلوه الكالح بقطعة لبان قديمة اعتادت استضافة قوائمه العديدة وخلي سبيل الفرملة الرئيسية وهو يمسح عويناته بدموع سعادة من يفرج عن أصدقائه كروبهم !!

فوجئ مقعد السيارة بهبدة قوية خلف عجلة القيادة مع زمجرة مكتومة وآنت الكنبة الخلفية من ثقل كيس الهدايا الذي لم يتخفف رغم الزيارة الثامنة ! ورغم أن حشرجة الموتور انتقلت لباقي أجزاء الرداء الأحمر وبطارية المسجل الصغير، إلا أن دموع السعادة لم تتوقف .. كانت تناقض رفض الأصدقاء لبابا نويل .. لبساطته، سذاجته، وظهوره للكبار بدون ديسمبر من أي عام !

كان الكفر بالخير وحسن النية هو المضيف الدائم لكيس الهدايا الثقيل ! لم يتصور أي عدد بالقائمة المختارة بان طرقات القفاز الأبيض كانت موجهة له! بعضهم قابلها بابتسامة بلهاء وآخرين بقبضات غضب من ضج نومهم وهمومهم والعديد تلطف وقال (( لم نعد صغار يا محمد لتلهو بنا أمام أطفالنا )) وتكفلت الأبواب المغلقة بالباقي!
لم تكن (ليالي الوحي) قاسية كهذه الليلة ! ارتعشت فيها السيارة بشدة والسترة الحمراء تنتفض من الحزن والذوبان نبضا من الهم ! حتى الحذاء الضخم اخذ يئز في أصابع قدمه يحثها الحركة لعلها تنقذه .. يسعفه أصابع اليد تعبث بعصبية بسفح التابلوه لعله يلفظ القائمة الملبنة فتطير مع هواء الليل العنيف، فلا يأسوا على


بقايا الزيارات المنتظرة نهايتها. حتى كيس الهدايا تمرد على سذاجة القيادة وفك إساره لتمرح الهدايا على أرضية وجوانب السيارة تعانقها في راحة الاستيعاب! فوجئت الكنبة الخلفية برزم نقود ودفاتر شيكات ودوسيهات قديمة والبومات صور وعدة علب قطيفة بها أطقم ذهبية وأكياس عبوة كيلو تحتضن سكر وقمح ولحم وأرز وكراتين مياه معدنية وكميات شرابات جديدة وأدوية وصناديق حقن طبية ..الخ وفي لحظات انقلبت الكنبة الخلفية والدواسات لسوبر ماركت وصيدلية وترزي وصائغ وبنك صغير ...

توقف الموتور عن اللهاث وتضامن معه زجاج الأبواب فسقط مرة واحدة، فاغتنمت أسياخ الهواء البارد الفرصة وطعنت رزم النقود وأوراق الدوسيهات بشراسة .. فالتصق على سقف وجوانب السيارة مخالصات ديون وأحكام براءة وعقود إيجار وروشتات طبية وتذاكر سفر وحجز فنادق وتأشيرات مستحيلة ..الخ وتدحرجت على أرضية المقعد الأمامي كمية من الذهب كانت شبكة أحدهم !! وتشبثت اللبانة بالقائمة وبهتت على الركن الأيمن منها من ضغط الإصبع الأوسط .. ولم تلبث لحظة إلا ولدغت جفنيه فأشعل الموتور للمرة العشرين وتهادت السيارة والطرطور الأحمر يشتعل شيبا مع ضوء الفجر يقاسمه الحمار!

لم يبق على الصبح إلا برهة وبابا نويل يعابثه بكاء صامت من رفضهم الحقيقة .. الخيال .. بأنه ممكن يكون حقيقة .. فقط لو استضفته وسمعت مسجل الياقة بموسيقاه الخلفية وشاركت بابا نويل فرحته بعطاء السعادة والبحث عنها في عيون أصدقائه ! لم تكن الليلة ديسمبر وليس العام بالعام ولكنها كانت ليلة بابا نويل للكبار .. يفرج عليهم ليسعدوا عالمهم!

كان الهم اكبر من أن تتقاسمه أجزاء السيارة وحدها .. والكيس ابيض من الحزن أما الهدايا فتملحت من لسع الدموع وأخذت تلتهم أرضية السيارة بنهم غريب!

كانت ليلة أخيرة من (ليالي الوحي) التي فقد الإيمان بهن جميعا وبسريره أيضا! توجه صوب زاوية الغرفة وبدل بطاريات المسجل وحلق بطرطوره العميق على قمة المشجب واستند – بموسيقي تصويرية صامتة – منتظرا صبح جديد على (ليالي الوحي)

* * *
شهدت الخمس صلوات وقداس الصباح في اليوم التالي العديد من دعوات أصحاب القائمة الملبنة .. بما فيها الدعوة على بابا نويل المجنون الذي لن يكبر أبدا ويفضح أصحابه في نص الليل !!

* * *
لم يظهر بابا نويل في هذا العام على مستوى العالم! وكانت أزمة نفسية للكبار قبل الصغار! ولعلاج الأزمة ظهر أشباه مزورين لبابا نويل بذات الرداء ولكن دائما بكيس هدايا فارغ !

وبعد مائة عام اكتشف أصدقاء القائمة الملبنة انهم كانوا السبب في موت بابا نويل الحقيقي لهذا العام !

فللكبار أيضا أمنيات .. تنتظر التحقيق .. بلا سبب .. سوى الأيمان بالمستحيل!

محمد بكري
25/11/2003
جيبسي – ثاني يوم العيد

الأستاذ المبدع الكبير القدير قصة قمة قمة في الروعة لاسيما مع إستخدامك المتقن للألفاظ و الجمل التعبيرية فظهرت لنا هذه اللوحة الرائعة و حقا لا يشعر الأنسان بقيمة الأشياء إلا عندما يفقدها دمت بكل خير سيدي و دام قلمك مبدعا لنا و تقبل مروري و تحياتي وشرفت بحجز مروري الأول
يشرفني أن أري رأيك في قصصي لاسيما المشاركة في المسابقة ‏" فلتنتظر "
http//www.Kotab.Y-writers.Com
يسعدني المشاركة في هذا الرابط
sherif_elagoz@yahoo
ebn_balad_magd3@hotmail
يسعدني الأضافة

اشكرك استاذ شريف على هذا التعليق الراقي الذي يشي عن نفس كريمة وأديب أكرم - اسلوبك جميل ومميز ويسعدني دوما اتواصل معك واعمالك الجديدة

فللكبار أيضا أمنيات .. تنتظر التحقيق
ابدعت يا استاذ محمد بكري بخاتمة مناسبة للعنوان لتتوالي الاسئلة مع نص شديد الطزاجة
تحياتي

اشكرك استاذي الشربيني؛ لاني من اشد المؤمنين باحلام الكبار لانها ما تغير العالم! عالمنا وعالم من حولنا .. كلماتك اكثر من رائعة وذكية .. اتمنى اكون عند حسن ظنك وتنال باقي اعمالي في المقال والشعر العامي اعجابك

اشكرك ممدوح بك عزت - تشجيعك جعلني اسعد بالمشاركة الجدية في هذا المنتدى الفاخر، وكم كان تعليق العزيز/ شريف العجوز كريما وسخيا في ثناءه واتمنى ان اكون جديرا به.. ارجو ان يعجبك مقالي عن سر المصورة سارة كامل وزجلي عن رسالة الى قائد السرب .. انا جد سعيد بكم ومشاركتكم لانها اكسبتني بفضل الله ومجهودكم المميز اصدقاء جدد اتمنى احقق تواصل ايجابي مستمر معهم

اشكر سموك، وادعوك لقراءة قصة خلق شهرزاد .. فهي جد جديرة بسحر العيون .. افكاري دوما تحمل رسالة احاول احلق بالكلمات لتصل واتمنى تحوز رضاكي وفي انتظار تعليق حضرتك

الاستاذ محمد البكرى
أرى نفسى امام انسان متتعدد المواهب
فى القصه والشعر والزجل
وعلى راى المثل لسه فى الجراب يا حاوى
فمن راى انك لديك المزيد والمزيد لتمتعنا به
قصه جميله ورائعه
واحلى ما فيها انها تحمل أبعاد و فكره ومضمون
وهو ان الاشخاص دائما لا تشعر بقيمه الاشياء
الا بعد ان تتضيع
وان بداخل كل منا طفل
أشكرك على هذه القصه الرائعه وعلى اعمالك الممتعه
وانتظر منك المزيد
تقبل مرورى وتقديرى

يا سيدتي: ان احظى بهذا التقدير وحضرتك صاحبة 28498 رسالة فهذا اكثر مما احلم,, اشكرك واشكر دقائقك التى طالعت تجربتي الصغيرة واتمنى ان تحوز باقي الموضوعات اعجابك خاصة مقال (لغز سارة كامل) وقصة خلق شهرزاد - تحياتي والى لقاء

الأستاذ الكريم محمد بكري

ما هذا النفس الطويل في السرد ؟؟
حقاَ كانت قصة ممتعة بسردٍ متميز بنفس طويل
أبدعت يا صديقى و بورك قلمك

الاستاذ الكبير محمد بكري
قصتك رائعه .............رائعه
المغزى ,التمكن اللغوي ,اي وكما قالت الكاتبه الأمريكيّة الشهيرة ( كاترين آن بوتر ) بأنها تلك التي تقدم فكرة في المقام الأول ...ثمَّ وجهة نظر..... ومعلومة ما عن الطبيعة البشرية بحس عميق ..... وبأسلوب أدبي مكثف ..

احترامي لقلمك
شرين مصاروه
فلسطين

بابا نويل يموت أحياناً رمز للفرص النادرة التى نقتلها بأيدينا ثم نبكى عليها
تعبيرات رائعة تبوح بالحلم و الحقيقة
تحياتى