الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد.
لقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب لإقامة العدل بين الناس، يقول تعـالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾- أي العدل- (الحديد: من الآية 25)، فالعدل كالميزان لا يختل أبدًا وإنما يكون الخلل من الناس؛ ولذلك فالعدل علاجٌ لما يصيب الإنسان من سلب حقوقه بالديكتاتورية والظلم، والعدل أمان للمجتمعات من الدمار والهلاك فيه تزول صور الاستبداد والفساد المهلكة، وهو ضمان للحياة المطمئنة الكريمة للشعوب؛ حيث لا وجودَ للاضطهاد؛ ولذلك نجد أن كل مناحي التشريع مرتبطة بتحقيق العدل في نظام الإدارة والحكم والقضاء والأسرة والاقتصاد والاجتماع والسلوك.
مفهوم العدل في الإسلام:
لقد أرسى الإسلام المعنى الحقيقي للعدل في جوانبه الثلاثة، وهي إعطاء كل ذي حقِّ حقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ودون أي تمييز، وبذلك تختفي الحالات الكريهة التي تظهر لغياب العدل في المجتمعات، وهذه الجوانب هي دوائر متداخلة، فلا يصح إعطاء كل ذي حقٍّ حقه في الخير فقط، وليس في العقاب وملاحقة الجناة المخربين!!، ولا يمكن تحقيق مبدأ إن خيرًا فخير وإن شراً فشر، بترك الكبير والشريف وتطبيقه فقط على الضعيف والمقهور والعاجز، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد".
وبهذا المفهوم وعلى مرِّ الزمان جاء الأنبياء والرسل يدفعون الظلم عن الناس ويمنعون ضرره وينشرون العدل، فأول جريمةٍ على الأرض وأول معصيةٍ في الوجود أودت بحياة أول إنسان بريء على وجه الأرض.
والعدل المطلق هو الذي استأثر به الله تعالى فلا يفلت الظالم من عقاب جرائمه وإن أفلت منها في الدنيا، فإنَّ الله يمهل ولا يُهمل، وكذلك فالعادل لا يُحرم من أجره شيء والذي أعدَّه الله له، جزاء تحمله ولقاء صبره، لقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ (الأنبياء: من الآية 47) بل ذكر الميزان للحكم في الدنيا في قصة ذي القرنين ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾ (الكهف).
العدل سبب سعادة الإنسان في الحياة:
فما أحوج الإنسان إلى أن ينعم بالعدل في الحياة، سواء كان في علاقته مع نفسه أو مع ربه أو مع الناس، فعلى مستوى نفسه: هو يوازن بين العقل والغضب والشهوة سواء كان العدل ذاتيًّا نابعًا من كيانه أو أثرًا من الخارج كعلم أو معرفة أو إدراك أو اقتداء، وتتـجلى صور العـدل مع نفـسه في عدة صور مثل: العدل بين الجسد والروح، والعدل بين العقل والفكر، والعدل بين العمل والكسل، والعدل في الأخذ والعطاء، وعلى مستوى الناس بالعدل في الحقوق والواجـبات، وفي البيع والـشراء، والحكم والقضاء، وفي الشهادة والأمانات، وفي المنع والعطاء، أيًّا كانت مسئوليته في الحياة، طلبًا لرضا الله- عزَّ وجلَّ- وأجره وثوابه.
وبذلك فالعدل هو مفتاح استقرار واطمئنان المجتمعات، وحافز على العمل والإنتاج، ومصدر لنماء العمران وكثرة الخيرات والأرزاق، وزرع الثقة بين أفراد الوطن الواحد، يقول ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذٍ من أن غايتها ومصيرها انتهابها بين أيديهم، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب والعمران"؛ ولذلك فالبديل في المجتمع- إذا اختفى العدل- المشاحنات والفوضى والاضطراب، مثل: غضبة الشعوب المحتلة ضد محتليها، أو ثورات الشعوب لرفع الظلم الواقع عليها من حكامها بالغلاء والبطالة والسرقات والاضطهاد.
وعلى العكس، ففي ظلال العدل عاشت شعوب الأرض تنعم بثماره، التي أعلنها مندوب الغرب للفاروق عمر: "عدلت فأمنت فنمت يا عمر"، وها هو عمر الحاكم العادل بينما كان يـمرُّ ليلاً عـلى عـادته ليتفـقد أحـوال الرعـية فـرأى رجـلاً وامرأةً عـلى فاحشةٍ فجمع الناس وخطب فيهم: "ما قولكم أيها الناس، في رجلٍ وامرأة، رآهما أمير المؤمنين على فاحشة؟".. فردَّ علي بن أبي طالب: يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهداء أو يُجلد القذف شأنه شأن سائر المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:4) فتوقف عمر عن ذكرهما لعجزه عن الشهود.
وما قصة درع الخليفة علي بن أبي طالب، مع النصراني الذي اختصمه عند شريح القاضي، الذي قضى بالدرع للنصراني، الذي انصرف ثم عاد بعد عدة خطوات يقول: أما أني أشهد أن هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه فيقضي لي عليه "الدرع درعك يا أمير المؤمنين".
إن البشرية اليوم في حاجةٍ لترى من أمتنا هذا العدل واقعًا تراه كما لمسته بالأمس، وما ذلك بالصعب عليها، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يبشرها بجزاء العادلين: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المقسطين (العادلين) عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن- وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وولوا"، وإذا كان الموت آتٍ فليحذر كلُّ حاكمٍ أن يكون غاشًّا لرعيته لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم تموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة" (متفق عليه).
العدل طريق الاعتدال:
وإن مَن يتأمل بعمق وصفاء، يجد ذلك الرابط القوي والتلازم المستمر بين العدل والاعتدال؛ إذ إنَّ العدلَ وممارساته حين يسود، يؤدي إلى الاعتدال في المواقف والسلوك والمزاج ومواجهة الأخطار، ويصبح معه منهج الوسطية المنشود الذي هو فضيلة بين رذيلتين.
وقد كان للعدل شأنٌ لدى الحكماء في التاريخ، حين جُعل أساسًا للملك والحكم والسياسة؛ حيث قيل إن (العدل أساس الملك)، وما ذلك إلا لقيمة العدل وتأثيره في النفس والمجتمع وحياة البشر، وفي منهج الحكام والساسة في إدارة البلاد وقضاء مصالح العباد (وهذا هو لبُّ السياسة).
والعدل حين يسود تضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويسهل تدارك الفقر ومعالجة البطالة ومحاربة الفساد، وتقبل الرأي الآخر؛ لأن أهم مقومات العدل الذي هو سبب الاعتدال وعدم التطرف، هو إحساس الإنسان بهويته وكيانه ومستقبله، وهو يرفض ما يفرض عليه من تلون أو تلاعب، وصَدَقَ عبد الله بن رواحة- رائد كل مَن يريد أن يتمسك بهويته الإسلامية- يوم أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يجبي الخراج المفروض على اليهود آنذاك على أراضيهم، وخاف اليهود من أن يظلمهم عبد الله بن رواحة، فالتفت إليهم عبد الله وقال: والله إنكم لأبغض خلق الله إليَّ، ولكن هذا لا يحملني على ألا أعدل بينكم.. ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا﴾ (المائدة: من الآية
الظلم سبب الفوضى العالمية:
أيها العالم بأسره كن عادلاً وقف ضد الصهاينة المجرمين الظلمة المدعومين من الإدارة الأمريكية في ارتكاب، ويا أيتها الأمة، ويا حكام أمتنا، يا شعوبنا: ارجعوا إلى الله واعدلوا في كلٍّ، وليكن منكم حرصٌ على أن تحبوا لقاء الله ومعكم صحائف عدل بينكم وبين أنفسكم، وبينكم وبين الناس، وقبل ذلك بينكم وبين ربكم.
ولننظر جميعًا كيف أن المشروع الصهيوني الأمريكي يكشف في كل يومٍ عن جورٍ وظلمٍ ونفاقٍ من لون جديد، فبينما يعلن عن الدعوة للديمقراطية والعدل، ويعلن عن حقِّ الشعوب في الدفاع عن نفسها ومقاومة المستعمر لأراضيها؛ فإنه ينكر هذا الحق على الشعوب العربية والإسلامية، وعلى الأخص شعب فلسطين.
وبينما يتصدَّى الفيتو الأمريكي لكل قرارٍ يدين الاعتداءات والمجازر الصهيونية اليومية، فإنه لا يجد غضاضةً في وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ولا نسمع له صوتًا عندما ينادي البعض بتقديم القادة الصهاينة لمحكمة الجنايات الدولية، وهم الذين ارتكبوا جرائمهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع!.
وبينما تقوم الدنيا ولا تقعد في إدانةٍ أية عملية يسقط فيها قتيل غربي أو يهودي؛ فإن هؤلاء يصمتون صمت القبور إذا كان القتلى من جرائم صهيونية وحشية أو إرهابية تخريبية، تودي بالضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، كما يحدث في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة، وفي أفغانستان والعراق وغيرها، بينما عدل الله يقضي بأنه ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: من الآية 32).. هذا ميزان الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إن المخلصين يؤكدون أن الفوضى والاضطراب في العالم الآن يرجع السبب فيهما إلى الظلم، وهذه المعايير الظالمة منذ أن استأثرت الدول الكبرى بحقِّ الفيتو مصرة على ضياع حقوق غيرهم من الشعوب والدول بلا حسيب ولا رقيب، وهذا الانحياز السافر الظالم، هو سبب كل الحروب التي تدور رحاها على امتداد الكرة الأرضية، ونؤكد كذلك أنه لا استقرارَ في منطقتنا العربية والإسلامية في ظلِّ وجود الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين أرض العروبة والإسلام، ولا أمانَ في ظلِّ هذا الظلم الدولي الذي يمالئ الظالم على ظلمه، ويرفض رد الحقوق لأصحابها، ولا يقرن شعارات العدالة الإنسانية بالتطبيقات العملية على الأرض.
العدل سبب استقرار البشرية:
إن البشرية اليوم في أمسِّ الحاجة إلى العدل الذي أقامه الإسلام على الأرض؛ لإسعاد الدنيا وتصحيح مسار البشر، وإنه لا سبيلَ لاستقرار العالم إلا بالرجوع إلى العدل على كافة المستويات عالميًّا ودوليًّا وإقليميًّا ووطنيًّا؛ فرديًّا وجماعيًّا من المساواة والحرية والعدالة والإقرار بالحقوق لأصحابها، فهل يحسن العقلاء في هذا العالم من الحكام ومن السياسيين والمفكرين تلقي هذه الدعوة لاستعادة العدل الغائب، وإقامته في ربوع المعمورة؟ ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25).
وهل يفتح عقلاء الدنيا عقولهم وقلوبهم ويتخلصوا من أي ميلٍ أو هوى ليخرجوا البشرية من هذا الاضطراب والفساد العالمي الممسك بخناق العباد، فلا تزال دعوة العدل معلنةً سبيل النجاة: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58)، فالحكم بالعدل "بين الناس" لأنه عدل شامل "بين الناس" جميعًا، لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلاً مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما حق لكل إنسان بوصفه "إنسانًا".
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد؛ والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.