شريط الذكريات
بقلم
أشرقت راضي
11سنة
كعادته دائما كل صباح ، بعد أن استيقظ من نومه ، و بعد أن حضرت سكرتيرته " ندى " ، جلس الدكتور " رضا " طبيب الأمراض النفسية في شرفة شقته المطلة على النيل ليشرب فنجان الشاي و يأكل بعض قطع البسكويت ، بينما جلست " ندى " تقرأ له الجريدة التي كان بها خبرٌ يمتدحونه فيه لتفوقه علاج الحالة التي كان يعالجها ، و التي تمكن من شفائها بعد أن عجز عن علاجها أطباءٌ كثيرون ، ضحك الدكتور " رضا " عند سماعه لما كتب في الخبر ، و لما سألته " ندى " عن سبب ضحكه قال : لقد مر الأمر كشريط سينمائي ، و عندما أقصه عليكِ ، ستعرفين لماذا ضحكت .
فأنا من أسرة فقيرة كانت تتكون من أب و أم و ولدان و بنت ، و بعد ذلك حملت أمي بي ، و في يوم ولادتي فوجئ الجميع بأني وُلِدتُ بغير ساقين و لا يدين ، و عندها ، صرخ أبي : اقتلوه أو القوا به في البحر ، فأنا لا أريده
، ورفضت أمي أن تقتلني ، و لكنه في لحظةٍ تجرد فيها من كل مشاعر الأبوة ، أعلن أنه لن يكتبني باسمه ، و لن ينسبني إليه ، فسقطت أمي مصابة بالذبحة الصدرية ، وكحلٍ لهذه المشكلة عرضت خالتي أن تقوم هي بتربيتي و تحمل مسئوليتي ، و نتيجة لهذا الحل و بعد ضغط و توسلات ، وافق أبي أن يسجلني باسمه ، لكن دون أن ينفق علي ، و أن أحيا دائماً عند هذه الخالة الطيبة .
أخذتني " ماما وفاء " و هو اسم على مسمى فهي الحائزة على جائزة " الأم المثالية " لأكثر من قصة مؤلمة عانت منها هذه السيدة الطيبة دون أن تشكو أو تتخلى عن صبرها ، القصة الأولى هي أن زوجها
سافر بعد زواجهما بشهرين للعمل في إحدى الدول العربية ، وهناك رأى صاحب العمل صورة "ماما وفاء " مع زوجها ، فأعجب بجمالها ، فخيره بين أن يحضر زوجته ، أو يطرده من عمله ، و لمَّا حكى لها عما حدث ، رفضت السفر معه ، مؤكدة له أنها لن تبيع نفسها من أجل المال ، فما كان منه إلا أن طلقها و لم يسأل عنها بعد ذلك رغم أنها كانت حامل ووضعت طفلاً جميلاً ، و برغم من صغر سنها و جمالها إلا أنها رفضت الزواج تماماً ، و كلأن الأقدار قد اختصت هذه المرأة لتحمل ما لا يستطع بشر أن يحمله ، فقد مات شقيقها و ترك لها ولده لتربيه ، كذلك أخذت على عاتقها خدمة أمها و أختها المريضتين ، كل هذا الحمل على أكتافها وحدها !! ، و بالرغم من هذا لم تفكر إلا في الاعتماد على نفسها ، و اتكلت على الله و اشترت ماكينة خياطة لتعمل عليها حتى تتمكن من الإنفاق علينا ، و لهذا ف " ماما وفاء " اسم على مسمى ، و تستحق عن جدارة لقب " الأم المثالية " ليس في المحافظة فقط ، و لهذا أتمنى مخلصاً أن تحصل على هذا اللقب على مستوى الجمهورية .
أما عن حياتي مع " ماما وفاء " بعدما أخذتني لتقوم هي برعايتي ، فقد كانت سلسلة من العطاء الذي لا أعرف كيف أو متى أستطيع أن أوفيه فقد قامت على خدمتي و رعايتي حتى بلوغي العام الرابع ، عندها قالت أنه لابد لي من أن أتعلم مثل أي طفل طبيعي فكان لا بد من تعلم طريقة مناسبة لإمساك القلم ، و لم تكن هناك وسيلة إلا الإمساك به بين الرأس و الكتف أو بالفم ، و مع أنني عانيت كثيراً من هذه الأوضاع إلا أنني كنت سعيداً بالنتائج ، و عندما جاء موعد التحاقي بالمدرسة ، رفض مسئول المدرسة قبول أوراقي قائلاً لها : " لا ينقصنا معوقين " ، فما كان من هذه السيدة التي يحسدها الرجال على قوتها ، و عدم يأسها مهما كانت الظروف ، إلا أن أخذتني و ذهبت بي إلى مكتب وزير التعليم لتحكي لهم ما حدث من هذا المسئول ، فاختبروني في القراءة و الكتابة ، و نجحت طبعاً بفضل الجهود السابقة التي بذلتها معي " ماما وفاء " ، مما جعله يصدر قرارافورياً بالتحاقي بأقرب مدرسة لي .
انتظمت في الدراسة ، و علمتني " ماما وفاء " الصلاة ، و قراءة القرآن ، و أصبحت الأول على مدرستي التي لم تقبلني إلا بقرار الوزير ، و أصبح من المعتاد أن يحتفوا بي كل عام ، و يسلموني شهادات التقدير و الهدايا ، و لكن الحياة المدرسية لم تكن دائماً وردية ، فلم تخلو يوماً من
مضايقات بعض الأولاد الذين كانوا يعايرونني بعدم وجود يدين و ساقين ، مما كان يحزنني و يبكيني ، إلا أن الله كان يصبرني و يجعلني أتغلب على هذه الهموم ، بمزيد من العزيمة ، و لا يجب أن أنسى ابنة خالتي ناهد و لا جميلها ، فقد كانت تساعدني في ارتداء ملابسي صباحاً ، ثم تصحبني إلى المدرسة .
و في بعض الأحيان ، في أيام الأجازات ، كانت تأخذني أمي لأظل معها بعض الأيام ، و لكن هذه الأيام لم تحمل لي إلا الذكريات المؤلمة ، فلا أنسى أنني في أول يوم عندهم كنت ملقىً على الأرض ، و عندما جاء من يُسمى والدي و رآني، ركلني ، فطُرحت بعيداً بمنتهى القسوة ، و زاد على ذلك بقوله :- " إنت لسَّه عايش يا رضا !! " ، و لا أعرف حتى يومنا هذا ، لماذا كان يحب تعذيبي ، فقد كان يجلسني على بلاط الغرفة البارد بعد أن يخلع ملابسي و يتركني عارياً ، و لا يترك فرصة لضربي حتى في أبسط المواقف ، ألا و مارسها سعيداً ، ليس هذا فقط ، و لكنه كان يأخذ المبالغ التي تأتيني من أصحاب القلوب الرحيمة كمساعدة لي في ظروفي ، كان يأخذها لنفسه ، رغم أنني أحوج ما أكون إليها ، و لا أنسى أيضاً يوم أن قام مسئول كبير باستضافتي بأحد البرامج ، و لما سألني عن أمنية أتمناها ، طلبت حاسب آلي ، فحققوا أمنيتي ، و أعطوني هذا الجهاز الذي حلمت كثيراً باقتنائه ، و لكنه حرمني منه بحجة أن أخي الأكبر يحتاجه ، و أنه لو تركه لي فسوف يفسده أولاد قريتي ، و استمر على هذا المنوال ، آخذاً كل شيء أحصل عليه من أهل الخير .
لم أجعل هذه الأشياء تؤثر بي فكنت أظهر دائماً كإنسانٍ قوي ، و لكني في الحقيقة كنت أبكي كثيراً عندما أنفرد بنفسي ، كنت أبكي من ظلم الإنسان الذي يفترض أن يكون لي حصن الأمان ، و لكني كنت أكفكف الدمع و أقوم من بكائي مصمماً على التحدي ، حتى أُصبح شخصاً يفخر بنفسه ، و يفخر به كل من حوله ، و دائماً كان الفضل ل " ماما وفاء " تلك السيدة التي لم أشعر لحظةً أنها انشغلت عني لأي سبب ، كما لا أنسى طبعاً مساعدات الناس الطيبين .
كان من الطبيعي بالنسبة لي طبعاً أن أكون متفوقاً دائماً طوال سنوات الدراسة ، حتى وصلت إلى مرحلة الثانوية العامة التي كنت أصل فيها الليل بالنهار ، حتى أحصل على أكبر مجموع ، و هو ما حدث مما مكنني من الالتحاق بكلية الطب ، التي لم تخلو حياتي بها من بعض
المضايقات و السخرية التي لم تعد تؤثر بي ، و لكن هناك أيضاً من الزملاء من أحبوني و انبهروا بي و اتخذوني مثلاً أعلى ، حتى تخرجت بتفوق ، و تخصصت بعد ذلك في الأمراض النفسية و العصبية ، لأن أي تخصص آخر لم يكن ليتناسب مع حالتي التي ترينها ، و بعد أن تخصصت أخذني صاحب مستشفى استثماري لأعمل معه ، فانبهر بأساليبي في العلاج ، و التي كانت تؤدي إلى شفاء الحالات التي أعالجها ، و ذلك ببساطة لأنني كنت أشعر بما يعانيه هؤلاء المرضى من قسوة الزمن و الأهل عليهم ، فقد كدت أن أصبح واحداً منهم ، لولا إرادة الله التي دفعت في طريقي كل من ذكرت لك ، لكي يساهموا جميعاً في جعلي ما أنا عليه اليوم .
و الحمد لله سارت الأيام في طريقها الذي عوضني به الله عن تلك الأيام المضنية الأليمة التي عشتها ، و أصبحت بحمده تعالى من ذوي الأملاك ، و الطريف في الأمر ، أو المؤلم ، إن من جعله الله أبي ، بدأ يتقرب إلي ليستفيد من هذه الأملاك ، و لينوبه منها نصيب ، فقلت له :- " الآن تذكرت أن لك ابن و اسمه رضا ، أنسيت أنه مُعَوق ، أترضى به على هذه الحالة ، ألم تتبرأ منه قديماً ؟ ، ماذا تريد منه الآن ؟ ، أتريد المال ؟ ،لو كنت أعطيتني الاهتمام الكافي قديماً ، كان كله لك الآن ، لقد حرمتني من مجرد الإحساس بمعنى الأبوة " ، فسكت و لم يرد .
أرأيتِ يا ندى كم كان مشواري طويلاً و شاق ، لهذا كلما صادفت نجاحاً ، أتذكر هذا الطريق ، و أضحك ، لأنه كان من الممكن ألا أصل إلى ما أنا عليه ، فالحمد لله على نعمه ، فقالت ندى :- " ليس عندي كلام يساوي تقديري و احترامي و فخري بأني أعمل سكرتيرة لك " .