((المواويل الشعبية))
ـ بقلم الأديب مأمون الجابري ـ سورية
اعتاد العرب الهزج في قراءاتهم وأغانيهم، أي أن صوتهم يأتي بها مطرباً فيه خفة وفيه تدارك وتقارب، ارتفاع وانخفاض، يقارب وقع الخطو بإيقاعاته، وحين يقولون: أهزج الشاعر، إنما يقصدون أنه أتى بالرمل والرجز، وإذا قالوا: هزَّج صوته، عنوا أنه داركه وقاربه وهذه الكلمات (الرمل والرجز والمتدارك والمتقارب) هي أسماء أبحر من بحور الشعر، إذن الهزج يأتي خفيفاً سريعاً متتابعاً على وزن رشيق شعري، وهو كل كلام متدارك متقارب. والأهزوجة هي الأغنية جمع أهازيج.
وما زلنا حتى الآن نرى أصحاب الحرف اليدوية يهزجون أثناء قيامهم بأعمالهم، كالدهان والخياط والنجار أحياناً، كما كان الحدَّاء الذي يتقدم القافلة يهزج أيضاً، الجميع يهدهدون همومهم وأحلامهم يتغنون بأغاني الحب للمعشوق وللوطن والهم، يقوون من عزائمهم ويبردون جراحاتهم.
فما أحوجنا اليوم في محننا إلى ما نهزج به من أهازيج شعبية تعمق سهماً في الأدب المحدث الذي يمدُّ قامته بتطاولٍ نحو الموسيقا كجسر توقع عليه الألحان فيغنى، لا شك أن ما ينطبق عليه هذا الوصف كثير من الأدب الشعبي الحديث الذي جاء بعد شعر الأوائل العمودي، لكن الأكثر انطباقاً هو (الموّال).
فما هو الموال؟ ما هي نسبته ونشأته، موطنه وتاريخ ولادته، قائله ومكانه؟ وما هي أغراضه وأنواعه؟ ونظمه وغناؤه وموسيقاه؟
يقول الدكتور عبد الكريم الأشتر: "الموال أدب مشبوه، وأصل الشبهة فيه، ما سعت جهات معلومة من إحلال العامية محل الفصيحة". وهو فن كمثل غيره من الفنون الأخرى التي اصطلح عليها بالشعبية اليوم، مثل (الزجل) وهو ثوب سابغ لكل هذه الفنون المحدثة على تعددها.
وبهذا هو فن وأدب محدث يكتب باللهجة المحكية ويلتصق بالطبقات الشعبية، يعبر عن بعض صور الحياة العامة في أنماط سلوكها ماضياً وحاضراً، هماً وحزناً وفرحاً وحباً. لأنه يصاغ بلغتها ويمثل روحها ويصور إحساسها بقضاياها، وهذا ما أغرى بعض الشعراء الكبار أن يتحولوا أحياناً إلى النظم بالدارجة المحكية على نحو ما فعل أمير الشعراء، أحمد شوقي، في مقطوعته الشائعة:
النيل نجاشي *** حليوه وأسمر
عجبني لونو *** دهب ومرمر
والشاعر عمر أبو ريشة الذي نُسب إليه النظم الذي يقول في آخره:
يا حيف ضاع العمر *** والشيب سهمو صابْ
والحب ساحب جراحو *** عمْ بْعنّ وراي (يئن خلفي)
1-نسبةُ الموال ونشأته:
يقال إن نسبته إلى المولى، أي السيد، وهو ضرب من التراث الشعبي ظهر في فترة نكبة البرامكة، ولم يذكر أحد من الباحثين والدارسين اسم أول قائل له.
يقول الباحث الموسيقي عبد الرحمن جبقجي في محاضرة له: (لولا الحادث التاريخي الذي رافق إبداع المواليات/ والمقصود حادث البرامكة/ لظل هذا اللون من الغناء الشعبي لا زمان له ولا مكان ولا تاريخ).
ونرى أن الجبقجي يعتبره فناً غنائياً شعبياً بالدرجة الأولى وأن تاريخه ارتبط بحدث تاريخي رافق نشأته فحدد زمانه ومكانه، ومقولته هذه تتفق مع مقولة (السيوطي) وسواه من أن أول من نظم الموال، جارية من جواري جعفر البرمكي بعد نكبة البرامكة على يدي هارون الرشيد عام 187 للهجرة، حيث قالت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس *** أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت تراهم رمم تحت الأراضي الدِرس *** سكوتْ بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
ويتفق هذا القول مع قول صاحب كتاب ميزان الذهب للسيد أحمد الهاشمي صفحة (166-167) في أن المواليا (فن من فنون الشعر وضع للغناء) أي أنه فن أدبي شعري وضع للغناء لا للإلقاء. ويقول الهاشمي أيضاً: إن تركيب الموالي على الغالب من بيتين تختم أشطرهما الأربعة بروي واحد، أما وزنه كما يقول هو والدكتور الأشتر والجبقجي، فمن (بحر البسيط) مع ثلاثة أعاريض يشبهها ضربها، ولكن كثيراً ما تسكن في الحشو، أواخر الكلمات. مثال:
يا عارف الله لا تغفل عن الوهاب *** فإنه ربك المعطي حضر أو غاب
والقلب يقلب سريعاً يشبه الدولاب *** إياك والبرد يدخل من شقوق الباب
----
إن ردت تسلم بطول الدهر ما تبرح *** لا تيأسن ولا تقنط ولا تمرح
واستعمل الصبر لا تحزن ولا تفرحْ *** وإن ضاقْ صدرك ففكر في (ألم نشرح)
----
من قال جودة كفوفك والحيا مثلين *** أخطأ القياس وفي قولو جمع ضدين
ما جدت إلا وثغرك مبتسم يا زين *** وذاك ما جاد إلا وهو باكي العين
*** ***
2-مكان الموال:
وفي تحديد المكان: يذهب صاحب (سفينة الملك) شهاب الدين الحجازي المصري إلى القول: إن أول من نطق بالموال هم أهل واسط في العراق، والشاهد لديه:
منازل كنت فيها بعدك دَرس *** خرائب للعَزا تصلح ولا للعرس
فأين عينك تنظر كيف فيها الفرس *** تحكمْ وألسنة المدّاح عنها خرس
ويلاحظ هنا أن لغة الكتابة لغة الكتّاب وليست العامية، ويتفق صاحب سفينة الملك مع صاحب (سفينة الشعراء) العلامة محمود فاخوري في أن الرأي الشائع أن الموال نشأ في واسط يتغنى به الغلمان في رؤوس النخل وعلى سقي المياه، ويقولون في آخر كل صوت: "يا مواليا" إشارة إلى سادتهم، وقد أيد هذا القول الأديب ميشيل أديب فيما كتبه في كتابه عن صفي الدين الحلي وكذلك السيوطي. ويضيف الفاخوري -ولا ينفي الرواية الأولى في النشأة من ربطها بنكبة البرامكة- أن الرشيد بعد تنكيله بالبرامكة، (أمر أن لا يُذكروا في شعر، فرثتهم جارية لجعفر البرمكي بهذا الوزن والجنس المحدث وجعلت تنشد وتقول: /يا مواليّا/ ليكون في ذلك منجاةٌ لها من الرشيد).
وهذا أحد المواليات المنسوب:
أنتم أساس بلائي في الهوى أنتم *** أذيتم الجسم من بعد النوى أنتم
مالي طبيب يداويني سوى أنتم *** بالله، هذا الجفا ممن تعلمتم
ولعلي أرى في هذا الصدد رأياً منحازاً إلى رواية الجارية التي قالت هذا الضرب من الشعر بموالها، أي أنها أول من قال الموال، ولا أذهب مع الرواية الثانية، رواية غلمان أو عبيد واسط لأسباب: أولها أن المتغنين في واسط من العبيد والأجراء (والعبودية لا تُبدع). وثانيها أن الإبداع في هذه الرواية قد رُدَّ إلى مجموعة الغلمان العبيد وليس إلى فرد محدد بعينه أو جنسه، ولا بد لكل إبداع من مبدعٍ فرد أول.
أما تفضيلي وانحيازي إلى الرواية الأولى، رواية الجارية، فيعتمد على أن المبدع شخص واحد في البداية وهو جارية من جواري جعفر البرمكي، وإن لم يذكر اسمها، وربما كانت عاشقة محبة، (والحب يبدع) ولذلك حين اعتصرها الحزن والأسى على مولاها بعد أن أطيح به، أبدعت الموّال وتغنت به. هذا أولاً، وثانياً ليس كل الجواري للخدر، فقد يكون بعضهن مثقّفات ذوات حسب وصوت ومعزف وعلم وأصل، والتاريخ يغص بأمثالهن، كسلاّمة ودنانير وتودد وعُرَيْب، ومحبوبة جارية المتوكل، أما عُرَيْب، فهي من جواري الرشيد على الأغلب، وكانت ذات صوت وغناء وعلم في النحو، تستشار في تشكيل الكلام.
ويقول الفاخوري في كتابه سفينة الشعراء: المواليا من الفنون الشعرية المحدثة وإنها تحتمل اللحن والإعراب، بينما الزجل والكان وكان والقوما ملحونة أبداً.
ما يعني أن الموال ملحون أحياناً؟
شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي صاحب (المستطرف في كل فن مستظرف) يعتبر اللحن والإعراب في الموال عيباً كبيراً، إذ يجب أن يكون إمّا ملحوناً أو معرباً كباقي الفنون الأخرى دفعاً للاضطراب والخلل.
ويقول الدكتور الأشتر في محاضرةٍ له: "لذلك قالوا إن خطأه صواب ولحنه إعراب" وإنهم يبتعدون عن إدخال عبارات حضرية في نسيج كلماته المنظومة، ويفضلون أن تدور عباراته في مناخات ريفية وشعبية بسيطة تحاكي بساطتهم ومشاكلهم، تتعرض لأحزانهم وأحلامهم وقضايا حبهم وما ينجم عنها من أثر البعاد والهجر والجفا والقبول والإعراض، لذلك يبتعدون عن مواضيع الإعراب والنحو كي لا يكون الموال متكلفاً وهو ما يسمى بالتزنيم وهم يحبون بعض الحركات (الفتح والكسر) ولا يستطيبون (الضم) ولا يحرّكون به، ويسكنون في الحشو كثيراً.
وهكذا نرى أن مكان ولادة الموال حسب الروايتين السّالفتين هو العراق، لذلك كانت نشأته هناك واشتهر به البغداديون وعرف بهم كما يقول الفاخوري، وصار التغني به عامة. كما صار من أبرز ألوان الغناء هناك تطغى عليه لهجة الحزن المتصلة بولادته الحزينة التي صبغته بصبغتها على الغالب، ومن ثم انتقل إلى الأقطار الأخرى المجاورة والبعيدة. (والمواليا) هو ذات اللون العامي (الموال).
أما العلامة خير الدين الأسدي في موسوعة حلب، فلا يأتي قصداً على ذكر أي من الروايتين الخاصتين بولادة الموال ويقول في مادة "موال": أطلقوه على ضرب من الغناء المرسل. وجمع الموال: مواويل وموالات ومواليات. ويفصل في أصله فيقول:
1- في التاج: الموال الذي ولَعت به العامة أصله من الياء أي مواليا.
2- أصله المواليا، أي السادة، غناه العبيد ونادوا به مواليهم: سادتهم (وهنا يتقاطع مع رواية واسط دون أن يذكرها).
3- أصله مؤوّل أي القافية الأخيرة منه تكون كقافية أول بيت.
4- أصله مموّل، أي ممول بالتمهيد قبل المضيّ به بتقاسيم العود بالبشرف والموشح والقانون من مقام واحد فيتسلطن النغم في نفس المغني ويمضي بمواله.
5- إنه يمول صاحبه بهبات عشاق الطرب.
3-أغراض الموال:
لم تقتصر أغراض الموال على ما ورد ذكره آنفاً، من الأحزان والفجائع والمآسي، بل تجاوزتها للتغني بأغراض أخرى، إنسانية وعقائدية واجتماعية. فهناك الموال الديني الذي كان ينشد في الزوايا والتكايا وكذلك المواليات الإنسانية التي تمس الروح والقلب والعاطفة، وأهمها ما له صلة بالغزل، وهو واسع الانتشار، وهناك أيضاً الموال الوطني. وكثيراً ما تتداخل الأغراض بعبارات وإسقاطات رقيقة عاطفية، فتمزج لفظاً الغرض الديني بما يوحي بالغزلي، كأن يكون المضمون حب الله ورسوله وكذلك الوطني والعائلي من ولد وزوج.
طلاوة الموال ورقّته ضمن أغراضه العاطفية، دفعت به ليهجر وطنه ويشكو البعد ويذرف الدمع ويبدي الأشواق، وقد تكون هناك الهجرة والهجرة المعاكسة، بمعنى انتقال الكلام المنظوم ليتبع الحبيب المغادر أو المهاجر والمسافر بعيداً، أو يعود المنظوم مرسلاً من ديار الهجرة إلى الوطن الأصل بكل الحنين فيذكر الديار والأحبة، ويتباكى على الأطلال، كذلك هجر الموال موطنه متنقلاً على ألسنة الآخرين مستقراً عليها في أماكن أخرى نزح إليها عبر المسافات والحدود والأقطار، وتحدث بلهجاتها الجديدة فتميّز. وقد نُظم تبعاً لذلك الكثير من المواليات، فكان بعض الأقدمين يكتبونها في دفاتر خاصة تسمى (الجنك) تترك لأولادهم من بعدهم، ولكن رياح الإهمال وعدم الاهتمام بالتراث تذروها فتضيع لعدم إدراك أهميتها، ولو أننا أدركنا هذه الأهمية لعمدنا إلى جمعها وحفظها وفرزها وتصنيفها تبعاً للأغراض والأقطار، لتكون موسوعة مرجعية ذات فائدة للبحث والباحث فضلاً عن متعتها. والجنك يحتوي على الروضات، والروضة عبارة عن تسعة وعشرين موالاً، كذلك فيها المنقط والخالي من التنقيط.
وللمقارنة أورد فيما يلي موالين، الأول عراقي والثاني سوري:
ـ الموال العراقي:
ذكر الأحبه على منهج لساني بكار
هايم بوسع الفلا دايم عشار وبكار
ما يوم غير البكي حتى شغلني بكار
اش نابني من الهوى والنوح يا ويلي
مزق ثيابي وما ترك شي يا ويلي
تميت أندب على الخلان يا ويلي
حتى معي بالدمع بكيت بنات بكار
ـ الموال السوري:
غيدا ثغورا لَعَسْ ومرصعا بْلِيلهِنْ ( أسنانها لؤلؤية )
وجناتها من الحيا ما ينطفي بْليلهِنْ (أي مبلّلة )
ناديتلا واصلي وعواذلي بليلهِنْ (أي في ليلهم)
ايمتى تجيني وعيني من الدمع تنشف (أي تجف)
قالت: أجيلك بليلا مظلما ما انشاف (أي لا أرى)
قلت: البدر في السما لابد ما ينشاف (أي لا بد أن يرى)
قالت: أَهِلّْ الزَّوالف واختفي بليلهن (أي في سواد زوالفها, أي في عتمتهم)
ويسمى هذان الموالان العراقي والشامي بالموال السبعاوي لأنه مؤلف من سبعة مقاطع:
الثلاثة الأولى تسمى (المطلع)
الثلاثة الثانية تسمى (العرجة)
المقطع الثالث يسمى (القفلة أو الطبَّاقة)
والثلاثة في المطلع تماثل القفلة أو الطبَّاقة في السابع بالكلمة الأخيرة في اللفظ والوزن مع اختلاف المعنى وهذا التماثل يشكل جناساً تاماً كما في الشعر العربي على ما يعرف في البديع، ويسميه الموالة (التجنيس) و(التزهير) في مصر. أما المقاطع الثلاثة الثانية والتي تسمى بالعرجة أو التعريجة لأنه يعرج بها عن قافية الموال الأصلية إلى قافية أخرى، فأواخرها متماثلة مع بعضها، مختلفة مع أواخر المطلع والطباق، وتشكل فيما بينها جناساً تاماً آخر.
ويلاحظ أن الموال يغص بالمحسنات البديعية، ويزخر ويثري بالصور الشعرية، وتدل طريقة نظمه على تأصيل عمله وإنجازه، في حين تتفرد القفلة أو الطبَّاقة بمكانة خاصة تماثل مكانة الخرجة في الموشحة إذ بها يكتمل المعنى في الموال.
وفي ظني أن الموال في تأصيله استفاد من الموشحة ومن الفنون الشعرية الأخرى، ولولا اللهجة المحكية لكان ضرباً من ضروب الشعر المحدث.
4-أنواع الموال:
الموال الأول والأكثر شيوعاً لدينا هو
1-الموال السبعاوي ولكونه جاء من الشرق (من بغداد) سمي بالشرقاوي أو الشركاوي، وعرف في سورية أيضاً بالبغدادي ومنه الموالات البغدادية التي انتشرت في شمال سورية خلال القرنين (19 و20) في حلب وحماة وتوابعهما ثم في حمص وتوابعها، وسمي أيضاً (بالنعماني)، أما في العراق فسمي (بالزهيري) وهو سيد المواويل.
2-الموال الرباعي وهو مكون من أربعة أشطر متحدة القافية، وهذا أصل الموال كما أسلفنا.
3-الأعرج، وهو مكون من خمسة أشطر متحدة القافية عدا الشطر الرابع حتى ينطبق الشطر الأخير على الأشطر الثلاثة الأولى، وهو كثير في مصر التي وصل إليها- في الغالب- عن طريق بر الشام.
4-الموال السداسي وتتطابق قوافيه عدا الشطرين الرابع والخامس حتى ينطبق السادس على الثلاثة الأول.
5-وهناك التساعي والعشاري. أما ما زاد على ذلك فيسمى المطاول الذي يبلغ بعضه خمسة عشر شطراً.
5-دور الموسيقا في الموال:
ممّا لا شك فيه أن الموسيقا جاءت لاحقاً لتتصل بالموال، إذ أنه كان نظماً وكلاماً شعرياً في البداية، وهذا أمر طبيعي، ينظم في أغراضه المتعددة، وقد قال بعضهم كما أسلفنا، إنه نظم ليغنى، ولكنه قبل الغناء- بتقديري- كان يلقى إلقاءً وبعناية لفظية أنيقة تقارب الهزج من قبل المغرمين بالقول والمتأثرين به من الشعراء الشعبيين ومحبيه في مجالس المطارحة، وقد أدى الهزج والتنغم به إلى التغني بمدِّ المقاطع وقصرها، ثم وضعت الموسيقا المرافقة التي كان لها الأثر الأكبر في صنعته، حيث عملت مع الغناء على إثرائه وتأكيد صورته وتثبيتها بطريقة استهلالية خاصة تمهد للدخول في جنس نغم الدور، ومن ثم تحولت لتكون رفيقاً كشافاً ومعرفاً وناشراً بين محبي الموال على ألسنة المغنين وبمرافقة الآلة الموسيقية وألحانها، وهو يلحن على كل المقامات.
أورد فيما يلي موالاً يتغزل فيه صاحبه بحسناء بدوية، صُوَرُه منتزعة من صميم البيئة البدوية ببساطتها المؤثرة وسذاجتها وألوانها وحركاتها وأشيائها، ومنها ينتزع الأثر الجمالي ويزرعه في النفس.
ـ يقول الموال:
رنت بخلخالها عند المسير دواي *** /دوياً/
منها جنوني ومنها علتي ودواي *** /دوائي/
يا لائمي كفّ لومك والحكي ودواي *** /الدوي والكلام الكثير/
لو شفتها ريم ورد أحمر بروس الوجن *** /الوجنات حمراء بلون الورد/
ومطاوحاً لو مشت علْخد راحَنْ وجَنْ *** /حلية في الأذن تنوس/
ما شافها عابد إلا تسوسح وجنْ *** /اضطرب في مشيته وأصابه الجنون/
هذي من الحور ما هي من عرب بدواي *** /العرب البدو/
ـ ومثله موال غزلي آخر:
زاحت لثاماً لها عن ثغرها وشفاهْ *** /شفاهها/
مثل البدر لو بزَغْ تحت الغمام وشفاهْ *** /شفَّ عنه الغمام/
إش خدّ وإش عين بيها يا خلق وإش فاهْ *** /فمها/
صدّتْ لمع جيدها لا ركن صبري دوا *** /اهتزَّ/
ما عاد ينفع بحالي من قِلام ودَوا *** /أقلام ومحبرة/
ما من صديقاً يجيب لي من لماها دَوا *** /دواء/
ترياقها لعلَّتي، حالاً تصير شِفاه *** /يحصل الشَّفاء/
وقد انتشر الموال لاستساغته الشعبية في دول عربية كثيرة وهو يسمى أحياناً وبخاصة في جنوب العراق بالشعر النبطي نسبة إلى الأنباط، وهم كما يقول الحلي، عرب لغتهم الآرامية، وقد وصل أيضاً إلى تونس وسمي بالمألوف أو المالوف وفي الجزائر الوهراني وفي المغرب الملحون وفي الخليج النبطي أيضاً وهو نوع من المطاول يزيد على خمسة عشر شطراً.
وهناك في العراق وسواها تسميات أخرى مختلفة لأجزائه مثال: الأقفال الثلاثة الأولى عتبة الموال أو المستهل والثلاثة الأخرى التعريجة، الردفة. أما الطبَّاقة، الغلاق في القفل الأخير، فيسمونه الرباط أو الغطاء وبه يبلغ الموال ذروة المعنى وروعته.
وأختم بهذا راجياً رفع البلاء ورد القضاء عن أمتنا وبلادنا من الهجمات المسعورة العدوانية الصهيونية ومَن والاها.
يا مالك الملك ماعندي إله سواك ***
إن مسني الضر مالي يا إلهي سواك ***
يا رب جسمي انسلا والعظم مني بلا
انت جميل السِّتْر إن حاق فينا البلا
جور الليالي دعتْ جسمي كعود سواك
وأيضاً في البكاء والأسى على أحد الشباب يقولون: (وهذا ينطبق على شهداء الانتفاضة فكلهم من الشباب)
يا عين ابكي دماً ع َالصُفِّدُوا بخشاب
لاحل قتلن ولا سود العوارض شاب
الطفل يبكي عليهم من الصغر لَ شاب(تمد اللام قليلاً)
واجب على الخلّْ يذكرها منازلهمْ
البين ناغى وعشش في منازلهم
يا حيف أهل السخا تخلى منازلهم (واأسفاه)
راح السَّمَرمَرْ وخلّى للجراد عشاب
(السَّمَرْمَرْ طائر يهزم الجراد إذا زعق لأنه يلتهمه ويأكله فيهرب)
وهناك تفرعات أخرى تولدت عن الموال وتعتبر من أسرته، يعد منها العتابا ولها حكاية وتأصيل، وقد أدخل على أولها الميجنا، وأيضاً النايل وينسب إلى شاب اسمه نايل، أحبته امرأة وتغنت به وبمحاسنه وخصاله، وهو يغني من مقام الصبا الحزين، ويعدّ أخيراً السويحلي الذي انتشر في الساحل والأرياف، ويغنى من مقام البيات.
وتحكى في العتابا قصة رجل فقير من الريف ليس له من الدنيا غير امرأة يحبها وهي زوجته، وفي يوم غاب ليعود فلا يجدها في بيته المتواضع، وحين سأل عنها قيل إنها هجرت إلى القصر الذي يسكنه من هو أغنى وأعتى منه فراح يتغنى بها ويقول:
عتابا بين يرمي ولفتي *** عتابا لغيري ليش ولفّتي
أنا ما بروح لقاضي ولا مفتي *** عتابا بالتلاته مطلقا
ويلاحظ اختلاف الضرب الأخير " مطلقاً" عن الباقي
المراجع
1-المواويل الشرقاوية، د.عبد الكريم الأشتر، محاضرة ألقيت في فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب عام 2000م.
2-الزجل في الأندلس، د.عبد العزيز الأهواني، مجموعة محاضرات ألقيت على طلبة قسم الدراسات الأدبية، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية 1957 ص 9-62-68.
3-الموال حلقة /3/، عبد الرحمن جبقجي، دار التراث الموسيقي العربي، حلب، حلقات كتبت للإذاعة.
4-صفي الدين الحلّي حياته وآثاره، ميشيل أديب، ص 219-221.
5-سفينة الشعراء، محمود فاخوري، النزوع إلى التجديد، ص 205-206.
6-ميزان الذهب، أحمد الهاشمي، مصر 1966، ص 166-167.
7-سفينة الملك ونفيسة الفلك في الموسيقا والأغاني العربية 1893، شهاب الدين الحجازي المصري.
8-موسوعة حلب، خير الدين الأسدي ج/7/ ص 223..
9-المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي.