مذكرات قاضٍ
في يوم حار من أيام آب الحارقة , وبينما كنت أتجول في ساحة القصر العدلي بحلب سمعت احدهم يناديني باسمي ....
استوقفني رجل طويل القامة , عريض المنكبين , أسمر الوجه , ذي عينين سوداوين تنمان عن رجاء وتوسل.
• أرجوك ساعدني , إن ولدي موقوف في سجن المسلمية منذ أسبوعين.
• لا بأس , غدا في الساعة العاشرة صباحاً نباشر إجراءات الوكالة ... وإن شاء الله يحصل خيرٌ , ولكن قل لي لم اخترتني من بين جميع الأساتذة دونما سابق معرفة؟.
• إنني أعرف والدك رحمه الله , إنه ينطوي على سجايا حميدة وخصال نبيلة . "قال لي مجاملاً".
وبعد أيام قلائل تم إخلاء سبيل ولده الموقوف ونال حكماً بالبراءة ، فرحت جداً لنجاح الدعوى وبراءة موكلي ، ما أروع الشعور بالنجاح والأروع مشاركة الناس أفراحهم.
كنت أنتظر ذلك الأب الذي كان حزيناً وأصبح سعيداً , بت انتظره كي أرى قناديل الفرح في عينيه اللتين كانتا متوسلتين لما كان ولده سجيناً ، طال انتظاري لعلي أراه بعد اليوم ، لكن لي بذمته نفقات وأتعاب الدعوى ، وأنا مقبل على الزواج . نفقات حفل الزفاف كبيرة ، ولا أملك إلا جهدي وعملي.
الأهل والأصدقاء لا يرحمون , ألسنتهم سياط تضرب مسامعي . لا بد أن يكون حفل الزفاف بصالة فاخرة ، و بطاقات الدعوى مزينة بماء الذهب ، ويجب أن تقدم أنواع فاخرة من الحلوى تليق بمحام مشهور وناجح . وأنا أقول في نفسي :
ارحموا العبد الفقير ..... لقد ثقلت عليّ الأعباء .... والله وحده هو المعين .
ذات يوم تم الإعلان عن مسابقة لتعيين قضاة وشاءت الأقدار أن أ تقدم لهذه المسابقة وأنجح بها ويتم تعييني في إحدى المحافظات الشرقية
انتقلت إلى حياة جديدة ، عبؤها كان ثقيلاً على كاهلي ، وأنا شديد الروع من الظلم ، مرت عليَّ الليالي طويلة وأنا رهين الحزن والرهبة من المسؤولية ، وكيف يرتاح خافقي وتقرُ عيناي بالنوم إن التبس عليَّ الحق بالباطل ؟
إنها مسؤولية شديدة على الرجال لن يتمكن المرء من حملها بأمانة إلا وزاده التقوى .
بينما كنت أتابع عملي في مكتبي , لاحظت رجلاً متوسطاً في السن يذهب ويجيء أمامي مما لفت انتباهي . كان الوجه مألوفاً . لكن الذاكرة لم تسعفني وقتئذ .....
وفي المساء الهادئ جلست مع زوجتي وأولادي في بهو البيت العربي التصميم , الواسع الفسحة . نشرب الشاي المعطر بالقرفة ونتبادل أطراف الحديث ... ورغم حرصي الشديد على إخفاء قلقي وهمومي لكن زوجتي لاحظت وأحاطتني بسورٍ من الأسئلة وهي تحاول مواساتي.
كنت أحرص على ترك هموم العمل خارجاً ولكن كيف أستطيع وأحزان الناس تدخل قلبي؟ ... وكم يثير شجوني نداء مظلوم ... وتثير غضبي انتصار ظالم .
طرق الباب ثلاث مرات ... فتحت الباب.
• من أنت ؟.
• ألم تعرفني يا سيدي.... يا مولاي ؟
• انكشف وجه.. برزت عيناه تدوران في رأسه بمكرٍ وعرفته أنت ..الذي كان حزيناً ذات يوم ثم غاب ولم يجعلني أرى فرحته بابنه
• أنا آسف جداً يا سيدي , أرجو المعذرة , كنت مقصراً معك..
• لم تكن مقصراً بل كنت سارقاً
• أعطني فرصة لأصلح أمري معك
• لولا أن رأيتني قاضياً في بلدتك هذه لما تأسفت وهل بعد مرور هذا الزمن الطويل يكون الاعتذار مقبولاً ؟
• تفضل مولاي وسيدي , هذه الأشياء أحضرتها للأولاد .
• ماذا ... لبن ... بيض.... لحم ....صناديق كرتونية ... وصناديق خشبية تعج بها الأشياء.
• خذ هذه الحوائج قبل أن أحطمها فوق رأسك لا تهدر احترامك لنفسك ، لقد بعت نفسك بثمن بخس عندما سرقتني وأنكرت عليّ حقي الآن تريد رشوتي . أغرب عن وجهي .
أغلقت الباب وقد ارتجفت أوصالي غضباً عدت إلى فنجان الشاي المعطر بالقرنفل والقرفة ونفسي تحدثني :
وأحدث نفسي :
الإنسان نواح عندما تحل به مصيبة جبّار عندما يكون قوياً وتذكرت نصيحة والدي ( أن تكون مظلوماً خيراً من أن تكون ظالماً )