من غربة لغربة
الحنين إلى دمشق عارم والشوق ينمو مع تكاثف الضباب في تلك البلاد النائية , حمل حقائبه .. جمع أشتات أشيائه المبعثرة ولبى نداء القلب , وصور الأحبة ما برحت ذاكرته...
عاد الغائب عن البلاد سنوات طويلة .. خلف تلال الضباب مرهقاً يحمل حقائبه وهمومه على كتفيه .. يسير في شوارع دمشق ناثراً خطواته هنا .. وهناك .. باحثاً عن عنوانه الذي كان , وعن أهله وأصدقائه يقول لنفسه :
يا لشوقي لرؤية أهلي و خطيبتي بدرية 0
الطرقات تغيرت معالمها وكذلك معالم المدينة لكن الهُوية ما زالت تحمل عبق الياسمين الدمشقي . أستيقظت أغصان الذاكرة شغوفة .. لتذكر كل شيء.
الدرب الموصل إلى عنوانه مظلماً ، امتطى خطواته .. وصعد السلم . قرع الباب الذي حفر عليه أول حرف من اسمه , وأول حرف من اسم حبيبته " بدرية" رغم امتداد الزمن .. ما زال الحرفان واضحين يضمهما قلب يخترقه سهم .. أعاد طرق الباب .. ما من مجيب ، الصمت يقرع ذهوله ووجهه كظيم .
لكن السهم المحفور على الباب اخترق قلبه البائس وحركت نسائم عطرة من نفحات الماضي المسكون في روحه ستائر الذاكرة .... فتح الجار الباب . قائلاً : ماذا تريد؟.
• أهلي...
• هذا المنزل مهجور منذ عشر سنوات .. وأكثر.
فانوس شوقه ينطفئ شيئاً فشيئاً وتغيب أحلامه في أرصفة الانتظار ، سار في شوارع المدينة .. تلفحه رياح تشرين التي هيجت أشجانه .
ألقى بحقائبه على زاوية الرصيف .. يقول في نفسه :
لقد تغيير الحال , والزمان التهم الأهل والجوار, مالي أفر من واقع مؤلم , و أحلام تسكن الفؤاد؟
زار عدداً من الذين كان يعرفهم .. لكنهم لم يتذكروه 0
جال بنظراته في جميع الأمكنة .. والروابي . وعبّ من هواء هذا المساء البارد حتى انتفخت رئتاه.
وردفه بزفير لفظ معه كل اختلاجات روحه
ما أطيب عطر هواء بلادي....!
اتجه إلى الفندق لقضاء ليلته تلك ،على أمل العثور في اليوم التالي على أحد من أهله وأصدقائه أو حبيبته بدرية.
كان قلبه يخفق كطفل صغير يضم صدر أمه التي كانت مشغولة عنه في شؤون المنزل...
موظف الفندق يستقبله بشكل لائق .. اعتقاداً منه بأنه سائح أو زائر .. وعندما يعرف أنه عربي سوري .. يرفض أخذ الأجر بالدولار قائلاً:
• نحن لا نتعامل بالعملة الأجنبية.
• يردد العائد من الغربة على مسامع الموظف:
• أنا عربي سوري.
• أنعم وأكرم . يتابع :
• عشت أربعين سنة في المهجر .. وها أنا ذا أعود إليكم لأني أحبكم.
• هذا لا يصرف عندنا.
• يتابع المغترب :
• ليس لدي عملة سورية .. أمهلني حتى الغد.
• يرد عليه الموظف بنزق :
• معذرة ... لا بد أن تدفع لنا الأجرة بالعملة الوطنية , ومن يصدق أنك سوري .. ربما تكون جاسوساً أو مدسوساً؟؟
صرخ بأعلى صوته :
• أنا شامي ابن الشامي .......... مسقط رأسي ساحة المرجة.
قذف الموظف حقائبه خارج الفندق. فخرج مذموماً مدحوراً ... ودمه يبكي.
احتضن العائد من بلاد الضباب حقائبه , وانزوى في أحد الأزقة الموصلة إلى الحي الذي كان فيه بيته وأهله.
قبّلَ الرصيف... ثم افترشه ... وعندما أشرق الصبح .. أشرق أمله المتجدد ... ليتابع بحثه عن أهله ... وأصدقائه ... وعن الناس الطيبين.... .