الـــــــــــــــــــــراتب السراب

الراتب السراب
لم يكن سعيد يدرك و هو يغادر مكتبه المكيف أن الجو في الشارع قائظ يكاد يخنق الأنفاس ،وأن قرص الشمس يوشك أن يطبق على رؤوس الخلائق فيذيبها...لكنه تطلع إلى الأفق الموغل في البعد ،ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة الرضا و هو يجفف جبينه المتفصد عرقا...وانطلق يسابق الخطى لا يلوي على شيء سوى بلوغ الحافلة التي تقله إلى حيه و داره و ولده ،مطمئن النفس و قرير العين ،أجل يحق له اليوم أن يتمتع بهذا الشعور و أن يتذوق هذه اللذة...كيف لا و في جيبه تزدحم نقود الراتب و العلاوات ،و في مخيلته الآن تتزاحم المشاريع و الخطط التي سينفق فيها هذا المال...والحق أن هذه الخطط و تلك المشاريع قد تخمرت في ذهنه طوال شهر من الزمن...وفجأة تستوقفه رنات ساعة ضخمة تصدرت الشارع الرئيسي للمدينة ، الوقت يشير إلى تمام الرابعة بعد الزوال...و تسمرت عيناه على العقربين المديدين لتلك الساعة الجبارة ،و إذا بيد تميل على كتفه تربته برفق .
– آه هذا حسين كيف حالك ؟- و تعانق الرجلان طويلا ،ثم دخلا المقهى المجاور.
– كيف تجدك يا سعيد؟ لم نلتقي مند شهرين-
– روتين خانق يا صديقي ،من المكتب إلى البيت إلى السوق – أجاب سعيد و هو ينفض سيجارته.
– حسن لأنني التقيت بك ،فأنت مدعو لحفل زفافي بعد أسبوع – قال حسين و هو يملأ قدحين من الشاي.
– ماذا هل أنت جاد هذه المرة؟- رد سعيد و هو يغمز بعينه لصديقه.
– بلى فأنت تعرف جيدا مزاج الوالدة و طبعها ،وقد رضخت لإلحاحها و توسلاتها المتصلة- قال حسين و هو يفرك أصابعه الطويلة.
– استمع إلي جيدا...مأدبة ليلة الزفاف ستكون هديتي لك اتفقنا ؟؟- قال سعيد مبتسما.
– رائع رائع أنت يا سعيد...انك سيد الجود و الكرم ،أشكرك من الأعماق- قال حسين و قد بدا عليه التأثر لمبادرة صديقه. ثم دار بينهما حديث رقيق.
واستأذن سعيد في المغادرة ،والتحق بالمحطة بعد لأي...و ما إن وصل حتى أقبلت الحافلة ،فهش لها الرجل كما يهش الحبيب لمرأى حبيبته...و هنا لمعت في ذهن سعيد خاطرة لطيفة –سأقتني في طريقي لعبة حافلة صغيرة لطفلي سمير،فالصغير مولع بهذا الضرب من اللعب – وابتسم كأنه اطمأن لهذه الفكرة اللذيذة التي ألحت عليه طويلا...ودقت ساعة المحطة مدوية و معلنة تمام الخامسة ،وانتشلت دقاتها سعيدا من حبل خيالاته السرمدي ،و في لحظة خاطفة قذفته موجة من الركاب إلى جوف الحافلة دون إرادته ...واشتد الزحام و طغت الجلبة وعم الصخب ،و تشابكت الأجساد و تضوع العرق في أنحاء الحافلة...و تسللت كف سعيد تلتمس قضيبا يتوكأ عليه لأن جل الكراسي المهترئة مشغولة بهذا الركام البشري الذي احتل المكان في لمح البصر،واندفعت الحافلة تطوي الطريق طيا غير عابئة بكتل الركاب المكدسة في جوفها...و إذا صياح مؤلم يخرق السكون الذي كاد أن يستتب في الحافلة ،و تبين سعيد مصدر الصوت و إذا امرأة عجوز تشتكي – الغوث يا إخوان فقد سرقت حافظة نقودي – و تنتحب المرأة في نبرة استجداء للحضور...و يبادر السائق إلى إيقاف المركبة و هو يصرخ و يتوعد الفاعل ،ثم جعل يتفحص الركاب بعينين ساخطتين و مرتابتين ،و أما سعيد فخاطب الجميع بلهجة حازمة حاسمة – أنتم مطالبون باستخلاص هذا اللص فورا و إلا فإنكم آثمون في حق هذه المسكينة – و الغريب ألا أحد قد فكر في الاتصال بالشرطة...وأطبق صمت كمثل صمت القبور على رؤوس الركاب ،ثم تبادل الجميع نظرات ملئها الاتهام و الريبة و ما فتئ اللغط و الصخب أن عادا إلى المكان ...و في هذه اللحظة العصيبة فتح الباب و نزلت العجوز ملتاعة و هي تتمتم بكلام كأنه البكاء ،و رق سعيد لحالها و مشى في أثرها محزونا
و مرتاعا، وقد عزم أن يمنحها نصيبا من راتبه عسى أن يهون عنها وطأة الرزء و المصيبة ...و ناداها و هو يتلمس جيبه – سيدتي رجاءا – لكن سعيدا تسمر فجأة في مكانه و انعقد لسانه عن الكلام ، واعتلت محياه صفرة منكرة ،إن راتبه ليس في جيبه ...و لا أثر لحافظة نقوده ،و تطلعت العجوز إليه مستفسرة عما يريده منها . و لكن سعيدا اعتصر ابتسامة خاطفة من شفتيه و خاطب المرأة المكلومة بنبرة خفيضة – عوضك الله عما سرق منك يا أماه ...و عوضنا جميعا – ثم حياها مودعا ، ويمم شطر داره متثاقل الخطى ،شارد العقل ،كسير القلب...

أخى الغالي أبو المجد
و تتواصل إبداعاتك القصصية و يتواصل الجمال
الذى نرتشفه من ثنايا قصصك البديعة
أحسنت أيها القدير
أخوك

الرائع فى كل شىء استاذ ى ابوا لمجد

بلا ادنى شك انك قادر على تحويل اى لحظه عاديه لدنيا كامله من القصه
بحرفية القاص كتبت وبروعة السينارست ابدعت المشهد تلو المشهد
على الرغم من بساطة الموضوع وتكرار حدوثه الشبه يومى
الا انك فعلا على رأى المثل المصرى

عملت من الحبه قبه
تقبل مرزرى المتواضع وشكرا

أستاذ مصطفى

أسلوبك ذكى فى الحكى

وقصة ممتعة جدا..

دمت للإبداع

شكرا للقصة الجميلة التى اعجبتنى جدا
و فى انتظار جديدك أخى الأديب الرائع

» السراب
» السراب
» زى السراب