أنا دارك

الشاعرة الرقيقة ( سلوى محمود ) حين يلم الشاعر بمفردات تجربته ويكون واعيا بمعايير جودتها وكيفية توجيه الوجدان وإعمال الفكر ويمسك بزمام وسائله التعبيرية جيدا يستطيع هذا الشاعر أن يستشعر نضوجه ويدرك حقيقة من يتعرضون لشعره بالنقد والتحليل وهل هم صادقون فيما ينعتونه به أم مضللون له أم يسعون إلى هدمه ... وللأسف الشديد أن غالبية من ينظمون الشعر في مصر وخاصة شعراء العامية منهم ينظمون الشعر بالسليقة والفطرة دون دراسة أو وعي بمفردات التجربة الشعرية اللهم إلا القلة القليلة منهم ... لذلك فإن هؤلاء الشعراء وعلى الرغم مما منحهم الله من قوة الوجدان والقدرة على التعبير لدرجة تصل ببعضهم إلى اعتلاء منصات التتويج إلا أنهم يصبحون في مهب الريح لا يملكون حتى القدرة على الدفاع عن تجاربهم أمام الهادمين ويذهب الأمر بهم إلى حيز الغرور أمام تشجيع المضللين ... لذلك كان أساتذتنا يقولون لنا تعلموا أصول الشعر وروافده ليس بغرض الكتابة من خلالها ولكن بغرض الوعي بتجاربكم ومدى ما وصلت إليه من نضج بعد إفرازها إلى حيز الوجود ... فالشاعر ليس موكولا أثناء اللحظة الإبداعية بالنظر إلى قوانين الشعر ولكنه موكول في المقام الأول بذلك قبل اللحظة الإبداعية وبعدها ...
وحين اخترنا بعض شعراء الإسكندرية لنقوم بتدريسهم في الجامعة وإدخال بعضهم كجزء من المقررات الجامعية غضب البعض الآخر وثار واعتبرونا نقف منهم موقف العداء وهم لا يعلمون - على الرغم من قوة موهبتهم - أنهم لم يدخلوا دائرة التعبير الفني وهم غير مدركين لذلك لأن هناك من ضللهم بأنهم قد بلغوا مبلغا فأصبحوا فوق النقد ... فكنا نقول لهؤلاء الغاضبين : لو قابلكم طلاب الجامعة الذين يدرسون شعركم وسألكم سائل منهم عن فنيات القصيدة فبم ستجيبون عليه ؟... وكيف ندرس لطالب جامعي مثلا علم العروض والقافية ثم يفاجأ بشاعر مقرر عليه في المنهج لا يحسن وزن قصيدته على الرغم من قوة تجربتها وموهبة صاحبها ...
إن الشاعر هو عالم الأمة وهو أولى علمائها بأن يكون موسوعيا يدرك كل ما هو متاح من جوانب معرفية ...
وقديما كان لنا أستاذ من كبار شعراء العالم العربي كان يعلمنا أصول الشعر وكان من أكبر علمائنا ولم يكن قد حصل على شهادة في التعليم بعد ... وكان له نص من النصوص مقرر على طلبة الصف الثالث الإعدادي وهو عالم لا ينقصه من مفردات العلم بالشعر شيئا ... ولكنه قرر فجأة أن يذاكر ليحصل على شهادة حكومية معترف بها فقرر أن يذاكر " من منازلهم " كما يقولون ودخل امتحان الشهادة الإعدادية ففوجئ بأن نصه المقرر على طلبة الصف الثالث الإعدادي أمامه في امتحان اللغة العربية أي أن ذلك الشاعر سيمتحن في نص هو مؤلفه فبدأ يجيب عن السؤال بمنتهى البراعة ولكن الملاحظ وجد هذا الطالب يجيب إجابات نموذجية ربما واضع المنهج نفسه لا يعرفها فأثار هذا الأمر دهشته وحين سأل الطالب الذي يجيب كيف تقدمت كطالب منازل وأنت تملك كل تلك الحصيلة المعرفية ... فأخرج الطالب بطاقته وطلب من الملاحظ أن يقارن بين اسم الشاعر الموضوع في الامتحان وبين اسمه فذهل الملاحظ أن رأى أن الشاعر يمتحن في نفسه فصارت هذه الحكاية مثلا يضرب في الأوساط الأدبية والعلمية
وغاية مرادي من هذه الحكاية أن عليك أن تتعلمي بكل ما وسعك الوقت والطاقة أصول وروافد الشعر حتى تصبحي الحكم الأول على منتوجك الشعري ...
وبعضنا يتحجج أن العمل وظروف المعيشة لا تعطي الفرصة للتعلم ... صدقيني أن هذه حجة فالعلم يحصل ولو في وسائل المواصلات ... فالشاعر الذي ضربت لك المثل به كان يعمل خياطا وكان منشغلا ليل نهار برزقه وقوته ولكنه بلغ ما بلغه من خلال رغبته الصادقة ... وإذا سألنا أي الطريقين خلَّد هذا الشاعر : مهنة الخياطة أم الشعر ؟ أظن أن الإجابة واضحة
عذرا للإطالة ولكن سؤالك شدني فأردت أن أجيب عنه بمنتهى الصراحة ...
دمت ودامت موهبتك