حصـــــــــــــــــــــــــــــاد الشوك

حصاد الشوك

في تلك الحجرة الرطبة رقم-19- من حجرات مستشفى الأعصاب المتناثرة يمينا و شمالا كما الفطر البري ،كان جميل ممددا على سريره.. انه يقبع في هذا المكان الموحش مند ثلاثة أشهر أو يزيد .. و يتحدث الأطباء أن الفتى ألمت به أزمة نفسية ، ألزمته الفراش و العلاج.. فهو زاهد عن الطعام و الكلام، لا يتحدث إلا لماما.. يغرق في التفكير حينا، و ينغمس في صمت جنائزي مريع قد يتخلله بكاء متصل أحيانا. وما يلبث أن تلم به نوبة من الصراخ ، مرددا بصوت متهدج (قتلتها....أنا قتلتها) ثم يغشى عليه في مشهد يمزق القلوب.
طق..طق..طق..انصرفت الممرضة أو الفراشة كما راق لي أن أدعوها...و كانت قد فرغت للتو من حقن الفتى بمصل مهدئ حينما دخلت عليه.. لقد كانت لي بجميل صحبة قديمة، فهو رفيقي في الجيش.. وعهدي به فتى منطوي النفس، فيه شيء من الكبر ..محزون القلب إلا قليلا .و ابتدرت طريح الفراش بالتحية بعد أن استعاد بعض هدوءه، فنظر إلي في شرود طويل ..ثم هش للقائي، كأنه استقبل نبيا أو قديسا. و اغرورقت مآقيه بالعبرات.. و شد مليا على يدي و قال: لقد كنت وحيد أبوي، فقدت والدي حينما كنت صبيا يافعا..وتحملت أمي عناء تربيتي و تنشئتي ،إنني كنت طفلا مدللا كثير الطلبات ،وكانت الأم سعيدة بدلك ..فقد كانت تشقى لأرتاح، وتجوع لأشبع وتعرى لأكتسي ..كانت سخية ودودة ، وكنت أنانيا جحودا ..أحم...أحم...أحم...أطلت تلك الفراشة الأنيقة و مالت على أذني كما النسيم العليل في ظهيرة صيف قائظ و قالت – سيدي رجاءا لا ترهق المريض كثيرا – و مضت الفتاة و رحل معها نور يكفي لجميع البشرية أعواما مديدة. و تابع الفتى كلامه بصوت خفوت : وانسلخت السنون و أتيح لي أن أشب و أتقلب في تلك الحياة الباذخة المترفة، و التي كان وقودها عرق أمي و صحتها..فلم أكن أكترث أبدا لما تجده المسكينة من الإرهاق و النصب في شغلها ذاك ببيوت المدينة ..ولن أنس حينما تدخل البيت إذا تقدم الليل و علامات الإجهاد بادية على وجهها ..و الابتسامة لا تغادر شفتيها . وأبادرها حينها بقائمة مطالبي و رغباتي الجامحة ..التي تستنزف في لحظة واحدة ما جنته من مال في أيام.. و كنت مع ذلك قليل الرضا ، وكثير التبرم ..وطالما عنفتها وأهنتها في غلظة و جفاء، ولا تجد المسكينة ملاذا إلا الانطواء على نفسها و اهراق الدموع ،ولا تنقضي لحظات حتى تقبل علي متوددة متلطفة ، كأنها هي المخطئة قي حقي. كان ذلك دأبي معها، مزيدا من نكران الجميل، وكان ذلك دأبها معي، مزيدا من نكران الذات...طق...طق...طق. أطلت الفراشة مرة ثانية و أقبل معها ذاك النور الذي غادرنا للتو و كانت تحمل طبقا فيه كوب لبن و أقراص الدواء: حان موعد دواءك ... و انصرفت الممرضة الفراشة و امتصت معها كل أنوار الحجرة.
التهم المريض دواءه متبرما و أردف :وذات يوم بارد مطير، وبعدما فرغنا من طعام الغذاء..تأملتني والدتي مليا بعينين اجتمع بينهما كل حنان الأمهات..ثم حدثتني في لطف و أناة- يا بني أنظر حولك في من تشاء من بنات المدينة و نساءها أخطبها إليك..إن أمنيتي أن أشهد عرسك، و أحتفي بولدك ما دامت في عين تطرف –
تريثت قليلا، ثم أجبتها بتهكم و ازدراء – ومن تلك الحمقاء التي ترضى أن تقترن بشاب والدته خادمة تتكسب القوت من بيوت المترفين.. و تتلقط الرزق من موائد الموسرين ؟؟-
قالت المرأة المكلومة بصوت متهدج – ما كان لك أن تذكرني بهذا الكلام القاسي كل حين -
كانت الكلمات سهاما حارقة تخترق قلب المرأة المجهد..و صمتت طويلا ثم أطبقت بكفيها على وجهها، وأغرقت في النحيب ..وغادرت المجلس غير آبه لمقالتي الرعناء ..وتمشيت في الطريق ردحا من الوقت و سيجارتي تتأرجح بين شفتي في اختيال ينم عن جفاء القلب و خواء الروح فقد كنت أجد لذة و ترويحا عن النفس حين أسوق الأذى إلى تلك المرأة و أذيقها ألوان المساءة منتقما منها لأنها كانت السبب في قدومي إلى هذا العالم البغيض إلى نفسي و ما أجده فيه من الحاجة و العوز ،في حين يتقلب أقراني في النعيم و يتمرغون في البذخ و العيش الرغيد ...ثم ماذا ؟ لقد أحسست –صادقا –كأنني عدت إلى الرشد ،أو كأن الرشد عاد إلي.. .(قرنفل...ورد أحمر..ياسمين...) استوقفني محل يبيع الزهور.. وقررت اقتناء حزمة من الورد الفواح، عسى أن أتلطف به والدتي عما بدر مني من الرعونة و الجفاء.
و دخلت الدار، أطيف بأرجاءها عسى أن أباغت والدتي بتلك الهدية.. لكنني لم أعثر لها على أثر. وفي الحين راودني شيء من الخوف..و هتفت لأول مرة و منذ عهد طويل-أمي- وتناثرت الوردات من بين أصابعي المرتعشة...واعتصرني الفرق وصرخت رغما عني –أماه....أماه- ولكن لا أحد يرجع لي جوابا.. و دخلت غرفتي فجأة، و صعقت بما رأيت، و يا لهول ما رأيت...كانت أمي مسجاة على سريري جثة هامدة، و هي تحضن صورتي إلى صدرها، وعلى وجهها المنهك أثر ابتسامة.
وهنا أجهش جميل بالبكاء, ثم صرخ صرخة منكرة و أغمي عليه...و فزعت لما رأيت و سمعت...وبرحت غرفة المريض و قد بلغ مني الحزن مبلغا عظيما.

الاخ العزيز والكاتب المبدخ ابو المجد مصطفى

قصة رائعة فيها من الموعظة الانسانية الكثير

وفتاك قتل نفسة بضيق افقة وعدم الشعور بالرضا

والقناعة.....تحياتى ممدوح عزت

أيها الرائع أبو المجد
فى قصة الحزينة تلك فائدة عظيمة و تجربة تبعدنا عن عقوق الوالدين
و تبين مدى قسوة قلب الابن على امه و كل ذنبها انها اتت به إلى هذا العالم
و هى التى تعمل و تكد من أجول ولدها
و كان العقاب من الله بعودة الابن و حنينه لأمه و هى لحظة موتها و كان الله يعاقبه هو
لما اقترفه فى حقها و من هنا دخل المستشفى و حدث ما حدث
و رغم قسوة القصة و سيطرة الجو الحزين عليها لم تنس تلك الفراشة الجميلة
تحياتى لروعتك

قلبى على ولدى انفطر وقلب ولدى على حجر
رغم المراره
ورغم مافى القصه من احداث تدمى الفؤاد

الا انك يا استاذى برعت فيها كما برعت بغيرها
اسلوبك السلس وقوة البنيان القصصى لديك يجعل القارىء مشدودا ومشدوها من بداية القصه الى نهايتها
رائعه تضاف الى روائعم
دمت لنا بكل ود

» جروح الشوك
» طريق الشوك
» برامج الشوك توه
» نحن لا نزرع الشوك