الوعدُ الأخير

حين يتعلق الأمر بصدق البوح ، المرتقب تجدد الهوى وبقاءه قويا ؛ وخاصة إذا كان هذا الأم متعلقا بغد مرجوّ ، ومستقبل مأمول لمشاعر تزداد مع طيوف التذكار توقدا ، أقول حين يتعلق الأمر بموضوع من هذا القبيل يتضح ذكاء الشاعر الفني في التناول ، وهو ذكاء لا يتكيء على خبرة بطبائع التجارب الشعرية ، ولا يكتفي بتمكن المبدع من أدواته ، بل – إلى جانب هذا وغيره – يمعن المبدع في التلقائية التي تنم عن شفافية صدق يجاورها صفاء معدن ، ونقاء فكر .
وكأنما لسان الحال – في مثل هذه التجارب - يتطلب كتابة :
" إلى من يهمه الأمر " .
وكأني بالشاعر يستلهم من واقعنا ما يعرف في دوائر العمل بـ" إلى من يهمه الأمر " ، خاصة في البحث عت الاستقرار والديمومة .
وهو استلهام واع بما تتطلبه طبيعة التجربة في الحديث إلى المرأة التي امتكلت المشاعر ، وأصبحت كأنما زمام الأمر في يدها ، والحكم لها .
أو فلنقل إن الشاعر أبى إلا أن يربط بإحكام بين تجربته التي أراها منطلقة من إطار التجارب العامة وبين ما في دنيا الناس .
وأحسب أن هذه طبيعة التجارب التي تتناول المرأة المحبوبة في شعرنا العربي غالبا قديمه وحديثه ، حتى عد النقاد القدامي على وجه الخصوص أن التهالك في الصبابة من دلائل صدق الحب ، وأمارة على أن التعلق بالمرأة يقتضي الحرص على ما يرضيها وبذل الوسع في الظفر بقلبها .
والبداية لا تكشف عن ما نحاول توكيده فحسب ، بل تترجمه شعورا صادقا ، وشعرا آسرا ببراهينه الفنية الوجدانية ، وتغري القاريء بله أنها تجبره على متابعة القصيدة من أولها إلى آخرها .
ومقدرة الشاعر في جر القاريء إلى معانقة إبداعه يوثق حميمية العلاقة بين المرسل والمستقبل لأن منبع التجربة هو النفس البشرية .
وأحسبك سيدي الكريم حققت الهدف فنيا ونفسيا من هذه الدالية فأضفت إلى متعة المتلقي بما أتقنت روعة التجول بين بديع تصويرك المرفود بفكر راق ووجدان شجي نقي .



وقد نجح الشاعر في الانحياز الوجداني إلى الشرق من خلال تجربته ، وهو نجاح يعزز لدينا القول بأن شعر الغزل – على تنوع محاوره وأبعاده – لا يكاد يخرج في مجمله عن طبيعة هذه البقعة من حتمية الوفاء للمحبوبة على طول المدى .
وإن المرأة هنا لترتفع إلى القمة المرتجاة لها من صفات يتوقد من أجلها الخيال ، ويحلق الوجدان بأجنحة من صدق البوح ونقاء الكلمة .


سيدي الشاعر الكبير
الأستاذ / جبر البعداني
هذه أحرف خجلى تتقازم أمام داليتك الندية الطلية ، أرجو أن تكون ترجمانا لإعجابي وتقديري .
وأستأذنك في وقفات سراع مع بعض الأبيات :

( 1 )
حتّـى رأيتُـكِ تنسليـن مـن لغتـي
شعراً يُعيدُ إلى الأفكـارِ مـا شـردا
ربما لايكون الفعل " تنسلين " غير موائم لطبيعة الوجدان هنا ، إلى جانب دلالته السياقية والمعنوية ؛ فالانسلال – فيما أحسب يوحي بالهرب – والمشاعر هنا تقتضي الانسياب لا الانسلال ؛ من ثم قد يكون أوفق أن يقال :

حتّـى رأيتُـكِ تنسابيـن في لغتـي
شعراً يُعيدُ إلى الأفكـارِ مـا شـردا

( 2 )
فجئـتُ أسئـلُ والأفكـارُ متعـبـةٌ
فبـي يقيـنٌ ببعض الشـكِ إتّحـدا
ربما تكون الواو في بداية الشطر الثاني أوقع في الدلالة على الحالة التي عليها الشاعر وهو يسوق أسئلته محاصرا بالأفكار المتعبة ؛ لأن اليقين المشوب بالشك والمتحد به صورة للحال تقتضي واوه ، أما الفاء فقربها من التعليل أو الاستئناف يوهي قوة الحال
( 3 )


ها قد صحوتُ فعيشي صحوتي أبـدا
ولتكتبي فوق جفنِ العيـنِ مـا رقـدا
ها قد صحوتُ فصبي الشوق في رئتي
كأساً من الحبِ لم تسقـي بـهِ أحـدا
يُعربدُ الوجـدُ فـي قلبـي فيُشعلنـي
أميرَ عشقٍ لـواء الحـبِ قـد عقـدا
فأبعثُ الدهـرَ فـي عينيـكِ أزمنـةً
لاتعرفُ الغـدرَ والأحقـادَ والحسـدا
ماكنتُ أعـرفُ إن الحـبَ معجـزةٌ
أن الحب ؛
للعاشقيـن - فويـلٌ للـذي جـحـدا
حتّـى رأيتُـكِ تنسليـن مـن لغتـي
شعراً يُعيدُ إلى الأفكـارِ مـا شـردا
ربما لايكون الفعل " تنسلين " غير موائم لطبيعة الوجدان هنا ، إلى جانب دلالته السياقية والمعنوية ؛ فالانسلال – فيما أحسب يوحي بالهرب – والمشاعر هنا تقتضي الانسياب لا الانسلال ؛ من ثم قد يكون أوفق أن يقال :

حتّـى رأيتُـكِ تنسابيـن في لغتـي
شعراً يُعيدُ إلى الأفكـارِ مـا شـردا

وتسكنيـنَ ريـاضَ البـوحِ أُغنيـةَ
شرقيةَ اللحنِ أغرى سِحرُهـا الأمـدا
وقد نجح الشاعر في الانحياز الوجداني إلى الشرق من خلال تجربته ، وهو نجاح يعزز لدينا القول بأن شعر الغزل – على تنوع محاوره وأبعاده – لا يكاد يخرج في مجمله عن طبيعة هذه البقعة من حتمية الوفاء للمحبوبة على طول المدى .
وإن المرأة هنا لترتفع إلى القمة المرتجاة لها من صفات يتوقد من أجلها الخيال ، ويحلق الوجدان بأجنحة من صدق البوح ونقاء الكلمة .

فجئـتُ أسئـلُ والأفكـارُ متعـبـةٌ
فبـي يقيـنٌ ببعض الشـكِ إتّحـدا
ربما تكون الواو في بداية الشطر الثاني أوقع في الدلالة على الحالة التي عليها الشاعر وهو يسوق أسئلته محاصرا بالأفكار المتعبة ؛ لأن اليقين المشوب بالشك والمتحد به صورة للحال تقتضي واوه ، أما الفاء فقربها من التعليل أو الاستئناف يوهي قوة الحال .
( 4 )

فمـا أحـاول تعـداداً لِمـا زرعـت
فيـكِ المكـارمُ إلا أُخطـى العـددا
فكيـف أحصـر بالأعـدادِ ظاهـرةً
ما طالها العدُ يوماَ ضمـن مـا وردا
وهنا أيضا تحسن الواو استئنافا بيانيا لما عليه الشاعر .
( 5 )

تاللهِ لـولا أخـافُ اللهَ مـن زلــلٍ
لقلتُ قلبي لغيـرِ هـواكِ مـا عبـدا
في الشطر الثاني قلق نغمي ، يُبعد رونق الشعر عن رقة بحر البسيط ، وربما لو عدل الشطر إلى مثل :
لقلت : غيرَ هواك القلب ما عبدا
وقلـتُ لـولا مخافـة أن يُعاقبـنـي
ربي فأُحشـرُ بيـن الظالميـن غـدا
وأيضا في الشطر الأول قلق نغمي يخرج الشطر كله عن وزن البسيط التام .
وربما لو كان الشطر مثلا :
وقلت – لولا عقابٌ سوف ينزله
ربي فأُحشـرُ بيـن الظالميـن غـدا- :
أمنـت بالحـبِ دينـاً لـن أُخالفـهُ
ولست أرجـو بديـلاً عنـهُ مُعتقـدا
( 6 )

وفي عيوني سيوفُ الموتِ مشرعـةٌ
وسيفُ صبري تحطمَ فامنحي الجلـدا
ربما لو كان الشطر الثاني :
وسيف صبري تهاوى فامنحى الجلدا
فقد يكون تهاوي سيف الصبر مقابلا لكون سيوف الموت مشرعة.
( 7 )


مازلـت المـحُ والأبـوابُ موصـدةٌ
خيالَ شخصٍ يحـاولُ أن يمـدَ يـدا
ربما لو كان الشطر الثاني مثلا :
خيالَ شخصٍ إلى دربي يمدُّ يـدا
لاستقام الوزن والمعنى .
( 8 )

لتنزع الفـرحَ مـن أحـداق قافيتـي
الفرح مفتوحة الراء ، وقد يجوز تسكينها لضرورة الوزن ، لكن ما رأيك لو أبدلت بالفرح البشر؟
( 9 )

فهاكِ وعدي بأن يبقى هـواكِ معـي
حتى الفناء ولن يُخلفـكِ مـن وعـدا
لن تنصب المضارع ، ونصبه يكسر وزن البسيط ، في الشطر الثاني ، فلعلك تعاود النظر في تفادي الكسر بتغيير الفعل .
( 10 )
وليست هذه الوقفات غير حواش من الخربشات لا تنال من جمال الشعر ولا جلال المعاني المتدفقة بقوة التصوير ، واتساق الفكر في إطار من الاقتدار أحكمته شاعرية غواصة ببراعة في بحار الشعر وبحوره معا .
ولعلي لا أضيف جديدا حين أتفق مع الشاعر في فلسفة الحب عبر الشعر ، تلك الفلسفة التي صرح بها العقاد ( طيب الله ثراه ) حين قال :
الحب والشعر ديني والحياة معا = دين لعمرك لا تثنيه أديان
هي الحياة جنين الحب من قدم = لولا التجاذب ما ضمتك أكوان
من علم الناس أن الحب مأثمة = حتى كأن ليس إلا البغض إحسان
لكل قلب قرين يستتم به = خَلق وخُلق ح فهل يرضيك نقصان؟
**********
تحيتي لك وتقديري
ومعذرتي على إطالة لا تصح حيال إبداع يستحق العودة للتأمل .