كيف يتجاوز الشعب الفلسطيني محنته وواقعه؟
ومن أين يأتي بكل هؤلاء الشهداء والمقاتلين وكل هذه القصائد والأغاني؟
لايمكن أن نجد تفسيرا ماديا لهذه الظاهرة فمثلها لا يمكن أن يستند الي
حسابات العلم والمادة وشواهد الحواس الخمس, يقول محمود درويش في قصيدته
طوبي لشيء لم يصل أفلست الحواس وحاسة الدم أينعت فيهم, وقادتهم الي
الوجه البعيد..
حاسة الدم هذه ليست من الحواس الخمس, فسقف
الحواس الخمس هو العالم المادي, أما حاسة الدم فتتحرك في عالم ما وراء
المادة وما وراء الطبيعة, لذا يقول درويش في القصيدة ذاتها: الحلم
أصدق دائما, لا فرق بين الحلم, والوطن المرابط خلفه, والحلم أصدق
دائما, لا فرق بين الحلم, والجسد المخبأ في شظية, والحلم أكثر
واقعية.
شعر المقاومة إذن شعر إيماني عميق الإيمان, وهو إيمان
بالإنسان يستند الي الإيمان بشئ يتجاوز عالم الطبيعة والمادة ووسائل
الإعلام( د. عبدالوهاب المسيري ـ دراسات في الشعر), وللحقيقة فإن
الثورة الفلسطينية بدأت عمليا بشعر الشعراء وقصائد المقاومة لشعراء كبار
مثل هارون هاشم رشيد والشهيد عبدالرحيم محمود وتوفيق زياد وفدوي وابراهيم
طوقان ومعين بسيسو وحنا أبوحنا وكمال ناصر,
واستمرت مع محمود
درويش وسميح القاسم ومريد وتميم البرغوثي. غنوا جميعا لفلسطين الأرض
والثورة وللحلم المحلق حتي يهبط الي أرض الواقع.. غني درويش في حب
فلسطين فقال: فلسطينية العينين والوشم.. فلسطينية الاسم.. فلسطينية
الأحلام والهم.. فلسطينية المنديل والقدمين والجسم.. فلسطينية الكلمات
والصمت.. فلسطينية الصوت.. فلسطينية الميلاد والموت, وعندما رحل مضي
لم ينتظر أحدا, ولم يشعر بنقص في الوجود, ولم يشعر بنقص في المكان,
فالجرائد ذاتها أخبار أمس, عالم يطفو علي القتلي كعادته.. فكأنه عاش
للوطن ومات كقصيدة حب.
يقول في ديوانه كزهر اللوز أو أبعد,
سألت من مات منا: أنا أم أنا؟ وكأن الموت يسير معه كظله وهو الغريب في
وطنه وخارجه لكن معجزة الشاعر أنه عندما يموت تبقي كلماته ولا تموت.
وهكذا
كان حالنا كما يصفه شاعرنا الراحل: لا نستطيع اجتياز منطقة الألم ولا
الوصول لمصدر الكابوس, لكنه يري أن الرحلة بدأت وأنه لا غد يبقي علي
حاله وكأنه يوجه لأعداء وطنه انذارا قضت به حقائق الأمور. مضي محمود
درويش كنسر يودع قمته عاليا عاليا, فالإقامة فوق الأوليمب وفوق القمم قد
تثير السأم, فوداعا وداعا لسفر الألم, وداعا لما كان.. وداعا لما
سيكون( محمود درويش ـ في حضرة الغياب).