عصـــــــــــــــــــــــــــــافير مغتالة

عصافير مغتـــــــــــــــــــــالة

قصره المنيف يكاد أن يقبل كف السماء...تلك السماء المتلألئة بزرقة خلقت لكي تتمتع بها كل طبقات البشر...قصره الشامخ يتربع على مساحة وسيعة من هذه الأرض العذراء و المعطاءة . الحرس و الحشم و الكلاب المدربة تذود عن قصره أناء الليل و أطراف النهار... كل شيء مراقب و تحت عين الحراسة حتى الأنفاس التي تختلج بين الأضلاع...
حتى نسائم الهواء التي تجتاح ذلك القصر تنال حظها الوفير من الرقابة...
سي رابح صاحب هذا القصر يملك أربعة قصور أخرى في شتى البلاد...رجل أعمال فاحش الثراء.
قال أحد الحرس يوما و هو يكتم حديثه .
– سي رابح لا أحد يعلم رقم أرصدته المتناثرة في شتى البنوك - ...
أسفل القصر و عند سفح الجبل نبتت مع تراكم السنين بيوت من الصفيح. سرعان ما تناسلت و فرخت مثل الفطر البري و أصبحت حيا من أكبر أحياء الصفيح.
ذلك الحي آهل بركام بشري هائل...آدميون يصنع الفقر ملحمتهم الحزينة و تنهش الفاقة براءة أطفالهم...
حي كئيب كأنه بعث من رحم الإملاق الذي أطبق على هذه البقعة المنسية و أحكم قبضته عليها.
انتشرت الأضواء الملونة و أعلام الزينة و صور مكبرة لسي رابح في أزقة الحي المترهلة . أزقة تشبه وجه عجوز لم تعد تجدي معها كل مساحيق الدنيا ...
صاح بقال الحي – لا يتذكرنا المترفون و أصحاب اليسار إلا وقت الانتخابات –
- إنهم يتخذون أصوات الكادحين أدراجا يتسلقونها وصولا إلى مآربهم- قال أحد الشباب مؤيدا.
دخل سي رابح الحي مترجلا...أكيد يريد أن يثبت لهؤلاء البسطاء البائسين تلك المقولة المستهلكة ( أنا منكم و أنتم مني )
قال أحد الأطفال مشدوها – سي رابح ذبح ليلة ختان و لده عشرة كباش-
قاطعه صبي آخر – رقم غير مضبوط يا هذا . لقد ذبح عشرون- ...عشرة. عشرون. عشرة...كاد الولدان أن يتعاركا فجأة...
في هذه الأثناء كان سي رابح محاطا برهط من الحرس يكفي لتحرير دولة فلسطين...
تمتم أحد مثقفي الحي – عدد حراسه يفوقون حرس رئيس الجمهورية –
راح الرجل الثري يغازل براءة الأطفال...الحلوى و الشوكولاطة كفيلان أن يمهدا السبيل إلى قلوبهم و من ثم إلى قلوب أولياءهم...
صدع سي رابح أخيرا بكلمة حماسية و هو يرمق الجماهير التي أخذت تحدق به.
- الإصلاح يبدأ من الأدنى إلى الأعلى و الفساد ينطلق من الأعلى إلى الأدنى كما يقول المفكرون . إن النساء و الشيوخ هم كل همي و سبب تواجدي بينكم اليوم-
و وسط ذهول السكان أومأ الثري إلى حرسه أن يبدءوا العمل...في لمح البصر كانت أكياس السكر و دلاء الزيت و كميات من السميد و أدوات المدرسة تتكدس وسط الساحة.
انقض السكان على هذا العطاء السخي و أخذ الجميع حاجته...وقال أحدهم في ازدراء
- اللهم أحفظ لنا الانتخابات من كل سوء-
و قال آخر متملقا سي رابح – يوم الثلاثاء هذا سيكون يوما وطنيا في حينا -...
مضت مرحلة الانتخابات لحالها. وقال شيخ المسجد يوما .
– لقد ظلمنا سي رابح يوم توهمنا أن عطاياه كانت مجرد حملة انتخابية. لكن ثبت لنا أن الرجل لم يرشح نفسه أصلا-
صرخ البقال مبتهجا – أجل يا إخوان إن الرجل شهم و ذو مروءة . أكيد أن قلبه الكريم قد رق لحالنا و قرر أن يحسن إلينا -...
تضاعف شغف السكان و مودتهم لسي رابح . أصبحت أيام الثلاثاء موعدا للعطاء السخي و البهجة و الاحتفال و فرصة لتناسي أوجاع الحياة.
مر شهر أو يزيد و أهل الحي يتقلبون في ذلك النعيم الباذخ ..شهر عسل سرمدي و طويل قد آذن بالرحيل قريبا...
ذات ثلاثاء رهيب نقشت أحرفه في صدور السكان من دم و نار. اجتاحت أزقة الحي القذرة قافلة طويلة من الجرارات و الرافعات و الشاحنات تحرسها جحافل الشرطة و الكلاب المدربة التي لا تسأم من التكشير عن أنيابها...
و وسط حيرة و صمت أهل الحي كان نفر من العمال يثبتون لافتة عملاقة كتبوا عليها
- مشروع بناء حظيرة للسيارات -