اعلم جيدا أن ما فعلته وقتها يعد عند كثيرين من الناس خطيئة تستحق العقاب ... لكنى لا أدرى كيف فعلتها , رغم أنى أعلم أكثر من غيري – بحكم دراستي – عواقبها ... فقط كانت لحظة تركت فيها نفسي و عقلي و كياني كله لها ... تتصرف فيه كيفما شاءت ... كانت هي الأخرى خجلي ...أكثر منى ...لكن خجلي له ما يبرره في عقلي ... لم يكن مجرد اعتياداً على الخجل ... بل انصهار أفكارٍ ًو خبراتٍ في بوتقة عقلي .كشابٍ رافضٍ تماما لفكرة الحب معتقداُ انه خدعةً كبرى ووهما مستطيراً ...
و كانت نظرتي إلى الحب مثل نظرة الراهب لأوكار البغاء يتمنى زوالها قبل إصلاحها ... وكانت تشاركني هذا الرأي ... جمعتنا سويا دراسة علم الأخلاق كجزءٍ من مكونات مادة الفلسفة ...
تلك التي عشقتها صغيراً و كرهتها كبيراً ...
عشقتها صغيراً يبغى من سطور الكتب بحاراً لا يكل العوم فيها ... و صديقاً يغنيني عن كل ما يرغبه الطفل من أصدقاء ... و لم تكن كتب الفلاسفة التي احتلت رفوف حجرتي مجرد صديق...بل صارت مع مرور الوقت بالنسبة لي حياةٍ أخري احلم و أعيش فيها ... لساني الصغير انقلبت حروفه البريئة أفكاراً مرتبةً تبهر كل من حولي و تثير حسد أقراني ... و تميزني و لو وسط ألف ...
و مقتها كبيراً... مقت غزوها و استعمارها لعقلي الذي لم يعش يوما سنه الحقيقي ..., مقت أنانيتها و رفضها شريكا لها في قلبي ألاعبه و يلاعبني ... أضاحكه و يضاحكني ... يحرص على رضائي و أخاف من هجره ... و كأن الفلسفة وحدها لا تكفى لشغل عقلي , بل وجدته يمتلئ حتى قمته بعلومٍ شتى صارت بعقلي مستودعا يجعل بأسمى محتلاً على الدوام المركز الأول في مسابقات استعراض المعلومات و أسميها هكذا ولا اسم أخر إذ أرى في عبارة مسابقات ثقافية أو معلومات عامة محاولة للتقليل من سخفٍ لتشابه هذه المسابقات مع مسابقات استعراض الأجساد ... فمازال رأيي أن الجسد أو المادة إذ ما سمحت طبيعته الفانية لاستعراض جماله أو تناسقه فجلى بنا الترفع بالفكر و السمو به عن هذا المصير ... لكنهم و مازالوا يفعلون ... فكان لابد أن أخطئ متعمدا و اقلب كل القواعد مهما كانت النتائج كنوعٍ من الاحتجاج ... متحملاً ُ كل الأضرار ...
عفواً ... فأنا قد شردت ... لكن ذاك دأبي ... أن أترك لعقلي العنان ولا أفرض عليه قيداً قط... حتى و أنا في قمة سني المراهقة و أقراني من حولي يصبون طاقاتهم في إعرابهم عن تخوفهم من مجاهل المراهقة و أسرار نمو الجسد ... كنت أنا أراهم سذج إذ يسألون عن مواضيعٍ تكفلت الكتب بتعليمي إياها و أنا لم أكمل من العمر عقدي الأول ... فصارت الأمور كلها معي على ما يرام ... لم أضطرب... لم أتوجس خيفة أو تصبح وحدتي ملكاً للشيطان يتخذها مرتعاً لوساوسه ... ولا أعلم هل هذه مزايا أم عيوب تعليمي القراءة و أنا بعد في الرابعة من العمر؟!...و قابلتها ... هكذا دون مقدمات أصر القدر على مفاجأتي بها ... و كم كانت دهشتي كلما وجدت آرائها تتفق مع رأيي عن المجتمع بأخطائهِ و تخلفه ِوتكلفهِ المتنطع و تحملنا لكل مشكلاتهِ... و معاناتنا تحت وطئها الأمّرين... رغم أنها ليست مصرية ... وتزداد دهشتي أكثر عندما أجدها على حريتها تماما دون ابتذال رافضة أي قيوداً عليها إلا عقلها ... ورافضة أي قيودا على عقلها سواه...
و على الرغم من ذلك لم أكن أسمح لنفسي بملامستها قط ... كآني أرفض لحوارات عقلينا أي تواصل غير الأفكار - و الأفكار وحدها – و انسابت أفكارنا المتبادلة كبندولِ ساعة لم يجهد بعد ...
و على الرغم من رفضي لكلمة الحب و مشتقاته أجد نفسي أعترف ... أعترف بأني أدمنت صحبتها ... أدمنت نظرة عينيها الجريئة و التي أشعر بها كلما رأتني و كأن قفازاً لطمها داعياً إياها للمبارزة ... و أدمنت إصرارها و عدم انسحابها قط ... أو تخاذلها ... و مرت سبع سنين ... و جاءت تخبرني بحتمية سفرها خارج مصر للأبد ...لماذا؟!...ظروفها العائلية تأبى عليها كبنتٍ العيش وحدها في بلدٍ غريبٍ عنها و بعيداً عن الأهل ...
ولكن ؟!...لا يوجد بعد قرار الآهل كلام... تحتم سفرها ... فلم تستطع الرحيل دون وداعي ... نظرت إلى عينيها ... وجدت الأمواج المتلاطمة كعادتها تدعوني للخوض فيها ... شعرت هذه المرة أن الأمواج تزداد عنفاً... كلماتها التي حاولت استعمالها للوداع خذلتها ... تركت للعيون وحدها فصاحة التعبير...
شعرت و كأن الله يبتليني بفراقها ... و لكن لماذا منحنى إياها إذن؟ ...هل لكي يأخذها منى مرة أخرى؟!...أفكاري أخذت طريقها كما اعتادت إلى عقلها ... ابتسمت ... أحسَستُ بأن البسمة غريبة عليها ... ليست كما اعتدت منها ... كانت أكبر ... كانت صورة مقدسة تجعلك تصفو بكيانك و تقف خاشعا أمام سر من الأسرار الإلهية ...تغيرت فلسفتي كلها و صرت طفلاً وليداً يحتاج من يدفعني لأخرج للحياة ... أمسكت يدها ... و قبلتها ... نظرت إلى و العيون تكاد محيطات الدنيا كلها لا تكفى مدادا يلاحق كلماتها ...
اقتربت شفاهنا ببطءٍ شعرت به و شريط حياتي يمر أمامي ماحياً كل الأفكار ... احتضان الألسنة بعضها بعضاً بدا لي و كان ذراعي قد التفت حول ذراعيها ... و رغم إننا لم نستغرق وقتاً إلا أن طعم الكريز المميز مازال في فمي...رغبة عارمة انتابتني بفعل العديد من الأشياء ...
أن اصرخ ... أن اضحك... أن أبكى... أن أطلق ساقيًّ للرياح و أطوي الأرض تحتي ... السماء تفتح ذراعيها لي كي أحلق ناشراً ذرات عبيرها فوق الأزهار ... عيناي تتلألأ و صوتي العالي يهتف بحماس: -
- فعلتها ... فعلتها ...
إحساسي بان الله وحده هو الذي منحنى تلك الفتاة جعلني أنظر لخطيئتي و أراها صلاة تعبد في محراب ذراعيها ...
و رغم مرور كل هذه السنين لم أنسها ... و لم أنس تلك اللحظة أبدا ...
و كيف أنسى ... كيف أنسى ميلادي من جديد؟!...
إذا أردتم أن تحاسبوني افعلوا ... إذا أردتم إدخالي الجحيم نفسه هيا قوموا بإشعال النيران ..
لكن أبدا ... لن أعترف آن قبلتنا تلك خطيئة... بل إعلانا عجزت حروف لغات الأرض كلها التعبير عنه...
و مادمتم تبغون حسابا لي قبل إدخالي الجنة ... فآنا أثق إنني سألقاها هناك... تنتظرني كما انتظرتها
لتعلن ميلادي من جديد.