فداء

جلست أمام زهرتي البيضاء كعادتي كل يوم و أنا أشعر بأنها مختلفة اختلافا عظيم ... لم تكن هي زهرتي رفيقة أحاديثي و كل شيء في حياتي ... و الذي كان يكفى مظهرها البريء لبث أكبر دفعه يتحملها قلبي من الحماس ... لكن اليوم لاحظت ذبول أوراقها القليلة ... حاولت أن أنديها بالماء ... لكنه لم يكن دواءها ... أعيتني السبل فذهبت بها إلى جدي بوجهه المتغضن الذي نقش عليه الزمن لوحته ... بصمت مددت يدي بالأصيص... نظر إلى الزهرة جيدا ... تفحص أوراقها ... ثم ساقها... ثم إلى منبتها ... و تنهد بحرارة و هو يشير إلى المنبت و ما يحيط به من تراب جف تماما حتى تشقق .. و العجيب أنه على الرغم من تشققه لم يكن يسمح بالماء العادي لكي يروى الزهرة المريضة ... و انسابت دمعة حزينة من عين جدي و هو يخرج من حيات ملابسه قطعة من القماش الملون لف بها الأصيص ... فما زاد الأمر إلا سوءا.. و بدت الزهرة كأنها تلفظ أنفاسها... فهمت مقصد جدي ... أخذت منه الزهرة الذابلة ... نظرت إليها كأني أودعها للمرة الأخيرة... قبلتها تاركا شفتاي تحتضنها و تسترجع معها الذكريات... كل ساعات جلوسي معها نتحدث طويلا عن حريتنا المقيدة ... ثم انطلقت ... كل خطوة أسيرها كانت زهرتي تتحول في مخيلتي إلى فتاة جميلة تدفعني برفق للأمام بمنظرها الذي اخذ يستجديني إنقاذها ... حزام المتفجرات الملفوف حول خصري اشعر به إكليلا يتوجني ... الأسلاك الشائكة صارت طريقا رمليا ممهدا ... أو بساطا أحمرا ممتدا تحت قدمي... الخوف يتواري خلف رداء الشجاعة ... القلق يتبدد خلف سماء الحرية ...لا تخافي يا زهرتي البيضاء ... لن تموتي ... لن تمرضي ... إذا كانت المياه لا تكفى لمدك بالحياة فأنا أعرف ما تحتاجين ... و لن أبخل عليك به ... و انظر إلى قطعه القماش الملون ... و اقبلها قبل ما تصعد روحي إلى بارئها.
() استشهاد فدائي فلسطيني بتفجير نفسه في معسكر للعدو و علم فلسطين في يده) )
نحى الجد الجريدة جانبا و هو يتجه إلى الزهرة و دمعة هي خليط من الحزن و الفخر تنساب من عينيه ... لقد عرف حفيده كيف يروى الزهرة و يمدها بالحياة ... و نظر إلى الزهرة ... إنها تزداد نضارة.