طريقه الوعر الذي اعتاد السير فيه بدا له هذا اليوم موحش... وسؤال ينهش أعماقه... كيف تحمل معاناة السير فيه كل يوم ...حلمه بأن الغد دوما يحمل املا جديدا بدا فى التضاؤل و التلاشي من قسوة الواقع الأليم. براءة قلبه التي كانت محلا لسخرية من حوله قديما تحولت إلى لعنات يصبها على كل من القوه في هذا المكان... تذكر سنوات عمره الممتدة عليه و هو يجاهد ليحصل على شهادة إتمام التعليم و من ثم الالتحاق بالجامعة و سنواتها التي مرت عليه ببطء ملحوظ حتى مرت... نجاحه بتقدير عال فاق أقرانه جعل الكل يتنبأ له بالالتحاق بعمل يضمن له غيب القدر أو ضمن هيئه التدريس في كليته... لكن الوساطة كان لها رأيا أخر أعلي صوتا و أقوى ساعدا... سرعان ما اخذ وظيفته أخر, و لم يجد بدا من انتظار خطاب القوى العاملة و التي نفته إلى مهنه لم يدر لها كينونة حتى يومنا هذا و رغم مرور سنوات سبع عجاف منذ التحق بهذه المهنة... لكنها كانت البديل الوحيد أمامه كي يجد لقيمه عيش تكفى لسد رمقه بدلا من الاعتماد على والديه و التي كادت مواردهما أن تنفد و نظرات عيونهما تسألان دون صوت متى سيتحمل هو أعاله الأسرة؟
خطواته تتجاوز الطريق غير الممهد على الإطلاق بألفه بائسة و فكره يسترجع حياته كلها ملونا ابتسامه المرارة المرتسمة على شفتيه ... أصوات نقيق الضفادع تكمل سيمفونيه الغضب التي تسحق طبولها دقات قلبه...يجلس في المكان الوحيد الذي يصلح للجلوس... كرسي قديم أكل عليه الزمان و شرب ... وحيدا مجهولا معزولا عن كل ما ومن حوله تراه من بعيد فتخاله شبحا متقوقعا على نفسه..
ترأف لحاله ... ترأف لحاله ... ترأف لحاله... ترأف لحاله... ترأف لحاله...
حوار:
-ماذا هناك؟
- لا اعلم و لكن يبدو أن هناك خطئا ما.
- اعلم أن هناك خطئا و إلا لما سألتك على الإطلاق.
- إذن ماذا هناك؟
-هذا تساؤلي فلا ترد السؤال بسؤال!
- لا افعل لكنني فقط أريد أن اعرف منك.
- و أنا لا اعرف و لولا إني لا اعرف لما سألتك على الإطلاق.
-أتدرى إني لو اعرف لما جاوبتك!
- و لم ؟
- لأني لا أدرى هل ما اعرفه هو الصواب أم أن الصواب هو ما اعرفه!
- ماذا؟!
- هل ما اعرفه هو الصواب الذي يتراءى لي انه صواب أم أن الصواب هو ما أظن أنني اعرفه على الرغم من احتمال أن يكون ما اعرفه ليس صوابا.
أين الحقيقة... أين الحقيقة... أين الحقيقة...
أين الحقيقة...
تساءلت النملة فى دهشة عن ذلك الصرصار الذي يسير أمامها فاردا شاربه العريض و هي تقارن بين حجمها و حجم ذلك الصرصور الضخم الذي ركلها بقدمه ...و حتى عندما كررت على نفسها السؤال وهى تعتلى جثه ذلك الصرصور بعد سحقه بشبشب مطبخ من قبل مارد فى غاية الضخامة و القوة لم تستطع للآسف تخيلها.. رغم أنها كانت تظن فيه القوة المطلقة.. فكل النمل فى زماننا هذا تضيع منه الحقيقة.
الحقيقة التي نعلمها جميعا و نتجاهلها... الحقيقة التي ضاع فى طريقها كثيرون فرشوا الطريق بأرواحهم لكي تمر عليه سيارة مرسيدس مسرعة دون أن تلقى بالا لكم البشر الذين يحاولون اختلاس حلم من بحر الخيال بامتلاك مثلها...
لكن السيارة انطلقت فى طريقها تنهب الأرض نهبا حتى توقفت أمام بائعه للفجل و الجرجير عقد الذباب و الفقر معها تحالفا أبديا... و ينزل سائق السيارة بكل أناقة زيه الغالي ليميل عليها و هو يخلع نظارته السوداء القاتمة التي اخفت عن الناظرين عيونه و أخافتهم منه... و اخفت عن عينه الكثير و الكثير من الحقائق. ..و تنظر له البائعة العجوز ثم تشيح بوجهها بما ينم عن معرفتها إياه...
- سامحيني يا أمه!
ثم يتهاوى عند قدميها مسلما الروح لبارئها فتهش هي الذباب بقرف ثم تنظر إليه لحظات ثم تقول:
- تفعل مهما تفعل مازلت غضبى عليك يا بن المجنونة!
و تعود لتنادى على بضاعتها التي تتسلمها من تاجر الخضراوات متحمله سخريته و التي يبذل – بحق – قصارى جهده لكي يفرغ انفعالات الغضب من زوجته التي تطالبه كل يوم بزيادة مصروف المنزل اليومي حتى تستطيع الدخول فى جمعيه جديده مع جاراتها لمواجهة زيادة أسعار كل ما هو موجود فى السوق. حتى و هي تمد يدها فى صدرها بسوقية مخرجه كيس نقودها لتعطى لمحصل الكهرباء قيمه فاتورة الاستهلاك و هي تشكو ازدياد ما تدفعه من شهر لشهر رغم انه تعود تلك الشكوى منها و أن شكواها هذه لن تجعله يتنازل عن كوب الشاي المعتاد بعد أن يعطيها الفاتورة لتلقيها بإهمال لاعنه إياه بعد أن ينصرف ثم لا تنسى شركه الكهرباء .. مع ادخار بعض الدعوات على الحظ الذي لم يجعلها تتزوج موظفا على مكتب أو من النصيب الذي منعها من اخذ أي قدر من التعليم الذي يتحدث عنه هذا المحصل بقرف شديد وهو يشد أنفاس الجوزة على القهوة بعد انتهاء ساعات عمله, ووسط ضباب مخدر البانجو يطلق الضحكات قائلا انه بدبلوم التجارة الحاصل عليه يعيش افضل من خريج كلية التجارة الذي يجلس هناك فى ركن بعيد يلعن حظه رغم أن مجموعه كبير و يفوق أقرانه مما كان يفسح له الطريق واسعا كي يلتحق بهيئة التدريس فى كليته ... لكن الوساطة اللعينة أبعدته بعنف عن الطريق معطيه الحظ كله لقريب العميد من الدرجة الرابعة عشر و الذي حصل على تقدير ضعيف جدا كي يأخذ وظيفة المعيد منه.
و ها هو يجلس منذ سنوات منتظرا الخطاب الأصفر كي يرفع العبء عن كاهل والديه تمهيدا لأعاله الأسرة كلها ... فيما بعد.....
- سامحيني يا مه!
- تفعل مهما تفعل لن أرضى عنك يا بن المجنونة.