ما أجمل النـــــوار

ما أجمل النـــــوار

سكت هنيهة حتى تستعيد أحباله الصوتية صداها القوي...مسح جبينه الوضيء بمنشفة عتيقة...ابتلع كوبا من الماء في عجالة. فليس هناك مبرر لإزهاق الوقت ...و بحركة سريعة كما البرق سكب ما تبقى من الكوب على باقات الفل و الياسمين.
ثم أرسل مجددا صوته المرنان ينساب كطائر طليق بين الشوارع و الأزقة ( نوار و قرنفل...ياسمين و أزهار...من يشتري؟؟).
احترف أبو نوار بيع الورود منذ أن لفظته جدران المدرسة...كان تلميذا كثير الشغب و المتاعب...لم يكن يحفل بالدرس و التحصيل. هوايته المحببة إلى قلبه هي رسم الزهور على المناضد في حين غفلة من المعلمة...
ذات صباح من أيام الخريف الباهتة اقترف جريمة لا تغتفر في حق زميله في المنضدة عماد...غرز قلم رصاص في أنف عماد و السبب نزاع شرس حول كتاب حقير ...سالت الدماء غزيرة من الفتى الوديع و أغشي على المعلمة حين رأت ذلك المشهد المقزز.
في المساء أرسل المدير كتابا مقتضبا إلى والد أبو نوار ( ولدكم خطر على المدرسة. و يحول إلى الحياة العملية ).
بات أبو نوار تلك الليلة عند بعض الصحاب...فجلده الواهن لن يقوى على لكمات والده القاسية.
مكث شهورا متسكعا بين أزقة المدينة .حرمه والده من المصاريف و كل مظاهر البهجة...حرمه حتى من ثياب العيد.
التحق الفتى بكشك لبيع الزهور معاونا لشيخ ضرير...و سرعان ما اكتسب الكشك المغمور صيتا واسعا و صدى كبيرا في المدينة...مكث مع الشيخ سنوات طويلة ما جعل الزبائن يلقبونه ( أبو نوار ).
مات الشيخ الضرير وترك ورقة في كفنه ( كشك الأزهار و ما فيه لولدي أبو نوار )...ابتسم الحظ للفتى و أمسى تاجرا مرموقا و حظي أخيرا برضى والده بعد سخط طالت آماده...
بيببببببببببببببب...سيارة فارهة وقفت أمام دكان الأزهار و الورود...ترجلت منها سيدة أنيقة كأنها زهرة فيحاء في ثياب امرأة . قالت بصوت حالم ( باقة من الزهور لعرس الزفاف لو سمحت ).
هرع أبو نوار بأنامله ذات الإيقاع الموسيقي نحو أصناف الورد و الزهور..تلقف وردة من هنا و التقط ياسمينة من هناك و قرنفلة من الأعلى...في لحظات سريعة ظهرت للوجود باقة جميلة أسرت قلب السيدة الحسناء.
( باقة رائعة و فاتنة...تستحق كل التحية و التصفيق). و على الفور راحت المرأة تصفق بحرارة وامتنان و سرعان ما شاركها المارة هذا الموقف و ارتجت أركان الكشك بالإعجاب و الصياح ...برااااااااااااافو أبو نوووووووووووووووووار.
اكتسحت بضاعة أبو نوار كل المدن و القرى المجاورة..لا يكاد يخلو حفل زفاف أو عيد ميلاد أو أفراح من باقات باذخة يزينها شريط وردي مكتوب عليه ( أزهار أبو نوار ).
في هذا اليوم المطير..تلبدت السماء بكتل رمادية من الغيوم...صدحت رياح باردة من الشمال. و انتشى الهواء الرطيب بوليمة من الرذاذ..
تردد أبو نوار في الذهاب إلى كشك الزهور...لكنه تجلل في رداء من القطن الخالص و يمم شطر عمله و هو يخاطب نفسه في هدوء ( ما أجمل البقاء في السرير قرب موقد دافئ و صحن من حساء الكرنب الشهي )...لكنه لم يتعود الكسل و الخمول. أمامه طلبيات للزبائن يجب إعدادها...باقة ورد لمدير مكتب البريد...باقة تهنئة للسيدة أم كريم...و باقة تعزية للسيد رئيس الجمارك..و و.
تجمدت ساقاه فجأة و لم يقوى على المسير. وقف ذاهلا أمام ديكور جديد لم يعهده من قبل. مشهد تشيخ قبالته الكريات الحمراء...و تطيش أمامه الألباب.
تلاشى كشك الأزهار من المكان مثلما يختفي صخر من الملح في جوف نهر عميق... وانتصبت بدله سياجات من الخشب الرقيق..علق أحدهم لافتة جديدة تحتوي بضعة أحرف. قرأها أبو نوار بعينين جاحظتين ( مشروع بناء مقهى )...