حدث في الريـــــــــــــــــــــــــــــــف

                 حدث  في الريـــــــــــــــــــــــــــف

الهدوء في الريف عملة متوفرة دائما. ليس كما المدينة حيث تقض الجلبة مضاجع البشر.
تلك العملة الثمينة لا يستسيغ طعمها إلا من اصطلى بجحيم المدن و ضوضاءها...
أبي كان أول من اقتطع أرضا للبناء هنا. و سرعان ما ابتنى لنا بيتا وسيعا تظلله نخلة وارفة.
أبي كان يضن علينا بمصروف البيت حتى يقارع مصاريف البناء . كانت مصاريفا مرهقة ...( أعمال البناء وحش لا يرحم. و على الجميع أن يحتمل سطوة ذلك الوحش) هكذا تردد والدتي على مسامعنا حين يتذمر أحدنا من قلة الطعام أو رداءة الوجبات أو شح اللباس.
لكن المنزل اكتمل بناءه بعد لأي...نحر أبي خروفا ضخما احتفاء بدخولنا ذلك البيت المبارك. لقد استنزف عرق والدي و جهوده و صبره و أمواله.
قررت هذا الشتاء أن أنتقل أنا و زوجي و ولدي إلى الريف. و أسكن في منزل أبي...بهرتني السكينة التي تخيم على كل شبر في هذا الريف.
ارتاح سمعي من هدير المحركات و ضجيج العربات و صخب الناس.
قرأت رواية ( يوميات نائب في الأرياف ) في ثلاثة أيام...كنت أفهم أحاسيس الأستاذ توفيق الحكيم حين أطالع تلك الأسطر الحالمة...
لكن الحي الذي كنا نقطنه يفتقر إلى الدكاكين...وعلى المرء أن يلتهم ميلا أو يزيد ليظفر بدكان من أجل التبضع...
سكان الريف لا يحفلون بقطع المسافات البعيدة. أقدامهم شبت على محبة المشي و السعي بين الحقول و الضياع...أما أنا فكنت أجد كل المشقة في قطع ميل كامل للظفر بكيس من اللبن ...
في هذا الصباح المتوشح بدفء الشمس و نسيم الشتاء الذي يوشك على الرحيل. أقبل ولدي سمير و الفرحة تتراقص في عينيه ( أبي أبي . لقد فتح دكان جديد في الشارع الذي خلف منزلنا).
كدت أطير من السرور و كأنني قرأت اسمي في قائمة المقبولين للهجرة إلى أوروبا...أخيرا ولت أيام العذاب و أصبح في حينا متجر زاخر بكل ما لذ و طاب من البضائع والمتاع...التاجر شاب لطيف الملامح و يجيد فنون التجارة... و سرعان من نجح في اكتساب ثقة سكان الحي...
انسلخ عام و إذا بدكان جديد يفتح مصراعيه في حينا...لم يكن يفصله عن الدكان الأول سوى بضعة أمتار...كان مترعا بشتى ألوان السلع و البضائع. حتى المستوردة أيضا و بأثمان يسيل لها اللعاب...
استبشر سكان الحي  و الريف جميعا بهذين المتجرين الباذخين..قال أحدهم مبتسما ( لقد أمسى حينا المتواضع مركزا تجاريا شهيرا).
كان التنافس على أشده بين المتجرين...كلا التاجران يقتني أفخم البضائع ليظفر بما تحتويه جيوب أهل الريف.
لكن ذلك التنافس مع الأيام بات عداوة مستعرة...حينما رجعت من الحقل ذات مساء. رمقت زحاما عظيما وسط الحي...معركة حامية الوطيس بين التاجرين.
حاول الجيران بث السلام بينهما. لقد كانا مثل ديكين غاضبين و الدماء تنهمر من وجهيهما . تشابكت الأيدي و تهاطلت اللكمات بينهما. لا أحد من الحضور فهم السبب.
و سرعان ما انقض أحدهما على الآخر..استسلم لبطش خصمه و ما لبث أن فقد وعيه...أقبلت الشرطة و اقتادت المنتصر إلى الحبس.
على طاولة العشاء أخبرني ولدي سمير أن التاجر المهزوم كسرت ثلاثة من أضلاعه...أصر الأطباء على بقاءه في المستشفى شهرا كاملا...
في الصباح خرجت باكرا للتسوق كما العادة...كان الدكان الأول موصدا...و كذلك المتجر الآخر. شعرت بمرارة لا توصف و حزن كبير على مآل المتجرين...و سرعان ما بدأت رحلة البحث عن كيس اللبن مرة أخرى.
لم يكن هناك بد من قطع ميل للوصول إلى أول دكان هناك في الأفق...