روميو و جولييت

تحت أديم السماء الزرقاء الصافية. انتصب هذا الجدار السامق في اصرار...
كان طلاؤه أصفر باهتا مثل لون الشمس حين تجنح الى المغيب لتودع هذا العالم الوسيع.
لوحة من خشب السنديان الصقيل تتوسط ذلك الجدار. وقف الشيخ أمام تلك اللوحة الأنيقة و اجتهد في قراءة الأحرف الزرقاء الناتئة...
لم يكن من السهل عليه قراءة الحروف العربية. لقد رضع اللغة الفرنسية مع لبن أمه كما يقولون...درس كل المعارف و العلوم بلغة فولتير.لكن ذاكرته القوية لا تزال تختزن تلك الأحرف منذ أيام الكتاتيب..
رفع بصره المرهق صوب اللوحة ( د..دد...داااار العج..ج..زة ).
لم يكد يكمل تلك الأحرف حتى تزاحمت العبرات في جفنيه المتعبين. اكتنف قلبه إحساس بالذنب و الملامة...
كان لديه شعور بالندم و الخجل و عدم المروءة... أحس أن ما سوف يقترفه من الشر يفوق في خطورته اختراع الديناميت و البارود و القنبلة الذرية جميعا...
لكن هذه الأفكار انقشعت و تبددت فجأة أمام شريط الذكريات اللذيذ...تحت أضواء العرس ووسط رائحة البخور و العطور وضع الخاتم الفضي في يد شريكة حياته زكية و همس في أذنها بمودة – آسف لهذا الخاتم الفضي. أنا لا زلت في أول الطريق-
أجابت زكية و هي تتألق في فستان أبيض باذخ – لا أحفل بالفضة أو الألماس. لقد اختارك فؤادي من بين تسعة فرسان. رغم سخط والدي-
لكن والد زكية أبى إلا أن يكون حفل الزفاف باذخا و رائعا..ذبحوا جملا للضيوف و الأقارب...
و لعلعت البنادق و قرعت الدفوف و صدحت المزامير أسبوعا كاملا...
عاش الزوجان مثل عصفورين جميلين..محبة خالدة كانت حديث كل سكان القرية...
لكن السعادة لا تكتمل دائما كما يقول الفلاسفة. فالأقدار حرمت ذلك العش الدافئ من طعم الذرية.
كان بيتهما واسعا مثل جنة فيحاء لكن لا ورد فيها و لا ياسمين و لا قرنفل...و رغم ذلك لم يخدش أحدهما الآخر قط بسبب الحرمان من الولد..
انسلخت الأيام و السنون في صمت ثقيل. و سرعان ما تسلل المشيب نحو الزوجين الحبيبين...ألم داء التهاب المفاصل بركبة زكية...أقعدها الألم أخيرا في السرير و وجد الشيخ مشقة في خدمتها و كفالتها . لقد ضعف بصره و خارت قواه و ولت أيام الشباب هاربة إلى الأبد..
أمسك بيده المرتعشة يد زكية. باردة كأنها قطعة ثلج...كانت تمشي بصعوبة كبيرة. دخلا دار العجزة بخطى متثاقلة...أحس الشيخ بالندم ينهش قلبه...
وقفت أمامه فتاة حسناء في ثياب وردي...هشت للقاء العجوزين . و أخرجت وثيقة زرقاء و جعلت تكتب كل البيانات حول زكية...
في هذه اللحظة كان الشيخ يحمل من الهم جبلا كبيرا ..لمحت الفتاة ملامحه المتشحة بالحزن فقالت بصوت رخيم – لا عليك يا عم..السيدة زكية سوف تكون بيننا معززة مكرمة-
غادر الشيخ تلك الدار و قد ترك نصف قلبه هناك...
انتحب مثل طفل صغير ليلة كاملة. كانت ليلة بيضاء و مؤلمة و موحشة...
في صبيحة كل يوم جديد. يتوجه الشيخ إلى دار العجزة مستندا على عصاه...يحتضن في ذراعه الأيمن باقة ورد فواح.
يمضي مع رفيقة دربه سحابة النهار...نكت و أخبار و حكايات لا تنتهي.
سكان تلك الدار أطلقوا عليهما اسم ( روميو و جولييت القرن العشرون)...
في هذا اليوم أقبل الشيخ و في يده هدية ...حذاء أحمر اللون من الجلد الخالص...بادر زوجته بتحية الصباح.
لكن زكية رمقته غير مكترثة و هتفت ببرود – أنا لا أعرفك من أنت-
- أنا زوجك كيف تنكرينني يا زكية – أخذ الشيخ يحاول مرة و مرة .لكن زوجه لم تعرفه و سرعان ما أشاحت بوجهها و مضت لحال سبيلها.
سخط الشيخ و هرول صوب الفتاة الأنيقة ليستفسر عن الأمر.
- يؤسفني أن أعلمك أن الزوجة أصيبت بداء الزهايمر. للأسف هي لن تعرفك مهما حاولت- قالت الفتاة بصوت خفيض تكتنفه المرارة....
أجاب الشيخ بثقة و الابتسام يتراقص فوق شفتيه:
- حتى لو لم تعرفني فأنني أعرفها -

انها حيزية الجزائرية......لقد عرفتها.....احسنت

ربيعة....يطربني مرورك الجميل فوق سطوري.
مثل مرور الغيوم على الصحاري العطشى.
شكر كبير.

» روميـــــــــــــــــــو و جولييت