الـــــــــــــــــــــــــــروايــــــــــــــــــــة

 الــــــــرواية
دم..دم..دم. انتفض ركح المسرح معلنا بداية العرض  لرواية " الظلال"...أخمدت كل المصابيح وخيم الظلام على أرجاء المسرح الكبير كأنه وشاح أسود أسدلوه للتو...خفتت أصوات الجمهور التي كانت تملأ المكان. هذا المسرح المهيب ذو الهندسة اليونانية أعيد بناءه مائة مرة ...لكنه كان يقف مرة أخرى بشموخ و اصرار.لقد تعرض آخر مرة لغارة متوحشة في الحرب العالمية الأولى. أحالته الى كومة من الصخور و الحديد و الاسمنت...حدثني أحد شيوخ المدينة أن الأمر تطلب مائة شاحنة عملاقة لسحب الردم و الأنقاض من أحشاء المسرح الجريح ...في ذلك اليوم الكئيب بكى كل الممثلون .بل إن أحدهم انتحر من هول الفاجعة. فلقد تعلم أصول الفن و التمثيل فوق ركحه العتيد.
من السقف انبثق ضوء أزرق خافت. و سرعان من انتشر على الركح الخشبي لفيف من الممثلين و الممثلات. يثبون هنا و هناك مثلما يصنع الفراش حين ينتهي موسم الجليد و تبتسم الشمس و يتفتح النوار...الرجال في ثياب نساء و النساء في ثياب الرجال. تلك متطلبات الرواية و فصولها...لقد شاهدت المسرحية خمس مرات. و ما تبرمت من ذلك قط...كنت في كل مرة أجد متعة جديدة و مغزى آخر و أحيانا أقطف فكرة فلسفية جديدة...يستهويني المسرح و أضواءه و الممثلون و حتى ستائره الحمراء...كنت أول من أسس نادي المسرح بين أسوار المدرسة حين كنت تلميذا في الثانوي...جلدني أبي يوما حين علم أنني أنفق مصروفي اليومي على ديكور إحدى المسرحيات...بل انه قاطعني و لم يحدثني مدة أسبوع كامل...و اعتبر سلوكي إسرافا يستحق العقاب و العتاب... صدحت موسيقى مدوية اضطربت لها جدران المسرح العريق...و سرعان ما تدفقت الأنوار كما الماء الزلال في الهاجرة...حمراء و صفراء و بيضاء تأسر الأبصار...تروقني هذه الرواية كثيرا و لا يضيرني أن أتلذذ بها مرات عديدة. عندما أشاهدها أشتم رائحة التاريخ و الحب و الإيثار أيضا...لكن فجأة ...الموسيقى تأخذ منحى آخر...أكثر رقة و خفوتا. كأنها رذاذ المطر عند انبلاج الفجر. ضج  المسرح بتصفيق حاد بعد هدوء طويل و حذر...كان بصري يتنقل بين وجوه الممثلين البارعين تارة...و بين وجوه النظارة تارة أخرى...أعشق كثيرا أن أقرأ أصداء الرواية على سحنات الجمهور...انفعالات و سخط . رضى و كآبة و سرور أحيانا.
" ليس من حقك أن تتهم جوستينيان بالخيانة فهو شيخ وقور تحترمه البلدة كلها" صاح أحد اللاعبين وهو يلوح بعصاه .
" اللص الحقيقي حر طليق لكن الأبرياء هم من يرتادون السجون. يا لعدالة السماء" قاطعته إحدى الممثلات بصوت أنثوي ساحر.
" لقد سرق رفيقه كلود نصف محاصيل الفلاحين دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة" أردف لاعب آخر وقد استلقى على أريكة باذخة من الطراز البيزنطي.
" السرقة أمر حقير. لكن المؤلم حقا أن يكون السارق متوشحا برداء الشرفاء و النبلاء" هتفت تلك اللاعبة الأنيقة ذات الصوت الآسر.انتفض الجمهور بعاصفة من التصفيق و التصفير أمام هذه الجملة الجميلة...و شيئا فشيئا عاد للقاعة هدوءها و انضباطها. لكن أحد المشاهدين هناك في الصفوف الأخيرة انتصب و قد اكتسحه غضب رهيب...شاب قد أنهى دراسته الجامعية منذ فترة ...كسر ذلك الصمت الذي اجتاح القاعة و صاح في وجه كل الممثلين قائلا "أنتم لصوص أيضا. هذه الرواية مسروقة. و أنا كاتبها"