اللون الــــــــــــــــرمادي
( الطلاء لا يروق لي ....باهت و حزين كيوم جنائزي و غائم ) هكذا تهمس في سمعي أختي الصغيرة كلما إقتحمت على غرفتي ...
كانت تتبرم من اللون الرمادي... .لكنه اللون الأثير إلى نفسي ...أعشقه منذ أيام الصبا ...
لم أكن أحفل برأي الفلاسفة عن اللون الرمادي ( لون غير صريح...حزين...صاحبه متقلب المزاج ومنافق أحيانا ). غرفتـــي هذه أصطفيتها من بين كل غرف البيت ...أعدت تهيئتها وتلبيس جدرانها وتبليطها وطلائها ...أقتنيت لها الأثاث منذ أسبوع فقط من حانوت * العم خالد * ...
أختي الصغيرة هدى قدمت لــي حين دشنت غرفتي ألوان زيتية فاخرة ...دفعتها إلي وهي ترمقني بنظرات ماكرة توشك أن تنطق قائلة ( أمامك كل هذه الألوان . رجاء تخلص من مخالب اللون الرمادي الذي يطبق على أفكارك و قلبك ) .
فــي هذا الصباح الباكر من أيام كانون الأول ...قطع علي رحلة النوم اللذيذة خيط فضي من خيوط الشمس الذابلة ...
عانق جفني المترعتين بالنعاس . وسرعان ما قفزت من السرير راغما ...أمر صعب جدا أن يفارق المرء الفراش فـــي صباحات الشتاء الباردة ...
تسكعت في الغرفة قليلا ...فجأة ( آآآآآآآآه ه ه ) هتفت بصوت خفيض
, شـــيء ما يضطرب هناك خلف زجاج النافذة ...تقدمت لاستبين المشهد ... حمامة رمادية بدأت للتو بنقل أعواد القش إلى سطح النافذة .
وفورا جذبني شريط الذكريات إلى أحشاء الماضي البعيد... أيام الطفولة كنت اربـي حمامة رمادية ذات أجنحة لامعة شبيهة تماما بهذه الحمامة الجاثمة أمام ناظري...
كنا صديقين لا نفترق إلا إذا جن الليل....لكن ذات صباح كئيب تفقدت صديقتي فـي الحديقة و بين أغصان الشجر .ثم دلفت صاعدا إلى سطح البيت .يا لهول ما رأيت ...كومة من الريش الرمادي تتوسط بقعة من الدماء الطرية...
أخذت الحمامة الجميلة فـي العمل دون كلل ...وبدأت ملامح العش تتوضح حينا بعد حين كما يرتفع البناء شيئا فشيئا حتــى يصافح خاصرة الفضاء ...
كنت مسرورا بهذه الجارة التي اتخذت من نافذتي مأوى و سكن دون نوافذ الدنيا قاطبة .
ذات صباح متوشح بغيوم عظيمة ...رمقت وسط عش حمامتي بيضتين لامعتين ...قفزت جذلانا بهذين الضيفين الجديدين.
,لكن فرحة هدى كانت أكبر و أعظم.. لم تكن هدى من قبل تحفل بالحمام و الطيور. لكن مشهد البيضتين إسترعـى إنتباه الطفلة الصغيرة ...
كنا معا نرقب الحمامة بهدوء وهي تحضن البيضتين , كنا تجتهد ألا نزعجها حتى لا تطير مذعورة خائفة...
مع تعاقب الأيام أمست غرفتـي أحسن من مسرح شهير...خشبة المسرح هــي نافذتي الصغيرة ....و اللاعبون هم البيضتان و الحمامة أما الديكور هو ذلك العش البسيط و أما الجمهور :أنا و هدى فقط.
(انظر يا أمين إحدى البيضتان تضطرب برفق) هتفت هدى و هي تشير نحو العش ...سرعان ما تصدعت القشرة ليطل علـى العالم الجديد رأس فرخ صغير.
و بعد برهة اطل رأس آخر(يا للروعة كم أنا سعيدة يا أخي)صاحت هدي و انفها ملتصق بزجاج النافذة...
بين عشية و ضحاها أمس مسرحنا الصغير يضطرب بالحركة و البهجة و الحياة بقدوم هذين اللاعبيــن الوليدين , و اكتسـى الفرخان بحلة من ريش رمادي ناعم...
سافرنا إلى الريف أسبوعا كاملا لنشهد أعياد الربيع هناك و عند عودتنا إلى البيت كان أول شئ قامت به هدى هو الصعود إلى غرفتي و سرعان ما صاحت (اميييييييين ....تعالى فورا)...
خلف الزجاج كان هناك عش جديد تقبع في وسطه حمامة جميلة ذات ريش رمادي خلاب. كانت الحمامة تحضن بيضها فــي سكينة و دعة ...قبلت هدى فوق جبينها و أنا اهمس (و الآن أليس اللون الرمادي رائعا؟؟).