لقد وضع الشعر -عادة، ومنذ الأزل- للتغني به و الدندنة، ثم إن البيت الذي لا يسكرك حسنه و أنت تلقيه أو تستمع ليس جديرا بالشاعرية قط . ومن هنا، كان الشعر -ولا يزال وسيبقى ، بل سيظل- مقرونا بالغناء، ما سمر السمير. وإنني لأتعجب أيما عجب، للذين يحبون الألحان و يسمعون الأغاني الراقية، و مع ذلك ن نجدهم لا يعيرون العروض الخليلي العربي مقدار رتيمة خنصر من الأهمية، بل يتخذونه هزوا، و هو يتربع على عروش أشلائهم، و يدندن في عقر دارهم شاءوا هذا، أم أبوا!!!
وإن هذه السنة العروضية الحميدة، قد توارثتها الأجيال، كابرا عن كابر، فلا يزال ((أحفاد "الخليل بن أحمد الفراهيذي")) رضي الله عنه و أرضاه يداومون عليها، فملأوا بها الدنيا و شغلوا بها الناس، في هذا الزمن الأغبر الموبوء الذي يشجع البضائع المحلية للرداءة الشعرية، بثقافة التقدم إلى الخلف في عصر، أقل ما نقول عنه: إنه ((عصر "الرقصو-لوجيا)) (01) -حاشاكم و حاشا قدركم العالي-
إنه أستاذ جامعي، بجامعة "الأمير عبد القادر، للعلوم الإسلامية" بمدينة "قسنطينة" الجزائرية. و أنت تتحدث إليه تلمس فيه أخلاق العلماء وتواضعهم، ويحدثك بحنان كبير وفي تواضع كبير أيضا وبابتسامة عريضة لاتفارق محياه...
لقد استطاع الدكتور "ناصر لوحيشي"، بشريطه السمعي الموسوم: "أهازيج الطلاب" وبجهد كبير، أن يوصل إلى أسماع الأساتذة، في كل أطوار التعليم، كما استطاع أن يوصل إلى أسماع الطلاب المبتدئين طريقة مثلى، لتعلم عروض "الخليل بن أحمد الفراهيذي" رضي الله عنه وأرضاه، معتمدا على طريقة النقر والغناء والتنغيم. ولقد يمزج الدكتور "ناصر لوحيشي" بطريقة ماهرة بارعة جدا بين هذه الطرق جميعا في وقت واحد، دون أن تحس أذنك بخلل ما!!! ليؤكد الدكتور "ناصر لوحيشيّ" للجميع نظرية "الخليل بن أحمد الفراهيذي" رضي الله عنه: كون الشعر عروضا أو لا يكون!!! وإيقاعا أولا يكون!!! وغناء، أولا يكون!!!
إن شريط "أهازيج الطلاب" ، لفرقة "الأنيس"، بزعامة الدكتور "ناصر لوحيشي" وبفكرته الخالصة، قفزة عملاقة جدا في ترقية الذوق السليم والرقي بهذا الذوق السليم نحو الأصل ونحو المنبع الصافي ونحو المعدن الأصيل للشعر العربي ليسمو الدكتور "ناصر لوحيشي" بشريطه هذا في سماوات مصاف العوالم النقية من الأكدار والشوائب لأن الذوق بدوره
-وبخاصة الذوق الموسيقي- يجب أن يهذب ويربى، كما يربى الوليد، وإلا مات اختناقا.
ولا أظن أحدا -وبخاصة بالجزائر- قد سبق الدكتور "ناصر لوحيشي" في هذا الطرح الوجيه القيم ، الذي أحدث انقلابا جذريا في آذان الطلبة، ورغبهم أيما ترغيب في الإقبال على هذه المادة العروضية الدسمة. فلقد دخل شريطه الموقر -في جزئين اثنين ((02)) البيوت، دون استئذان، ولقد غزا مدرجات الجامعة، دون طرق للأبواب، على الرغم من أن "النقر والدق" ديدنه!!! إنني أعتقد -جازمة- أن الدكتور "ناصر لوحيشي" قد اجتهد اجتهاده الخاص في ابتكار هذه الألحان: انطلاقا مما تحفظه "فرقة الأنيس من أناشيد دينية إسلامية، وهذا الاجتهاد الموفق -بإذن الله تعالى- شيء جميل، بل إنه في منتهى الروعة!!!
ما جعلني أقول هذا الكلام، هو أنني: مذ كنت ذات ثلاثة عشر ((13)) ربيعا، كنت أهتم بتفاصيل الأنشودة الإسلامية فكنت ألاحظ -على السليقة- أن تلك الأنشودة الإسلامية، تتماشى كلماتها جنبا إلى جنب مع نقرات الدف!!! كأن الكلمات والنقرات شيء واحد!!! مما يكسبها أجواء صافية من الروعة، و يخلع عليها مسحة من الألق، وسرحة من الخيال العلمي، في ((مدينة "الخليل بن أحمد الفراهيذي"))، رضي الله عنه وأرضاه
وما جعلني أعتقد جازمة -أيضا- ابتكار الدكتور "ناصر لوحيشي" للألحان التي وضعها بشريطه، بطريقته الخاصة، هو أنني كنت من المهتمين بالعروض الخليلي، منذ نعومة أظفاري: فكنت أدرك أن لكل بحر من البحور الشعرية الخليلية لحنا خاصا، لكنني كنت أدندن بهذه الألحان الشعرية، بنغمات مخالفة لنغمات "فرقة الأنيس"، إلا أ نني لن أنكر أبدا أنني قد أضفت إلى رصيدي الثقافي والموسيقي ما سمعته من شريط "أهازيج الطلاب".
ولئن كان الشعر قد ((وضع لمد الصوت فيه وللدندنة))، فلقد كان شريط "أهازيج الطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشي" مادة علمية وأدبية وشعرية وتربوية وأخلاقية وموسيقية راقية، تستحوذ على القلوب، وتأسر النفوس، لتشدها إليها بأمراس متينة من الإعجاب والإطراء الذي ينم بالفن الراقي، ويشي بحسن الذوق الأصيل، وفك وتبديد خيوط الرداءة المغرضة ونبذها ظهريا، فتسمو بهذا النفوس.
ولأنني أستاذة "عروض الشعر وموسيقاه" بالجامعة، فلقد كان هذا المقياس تطبيقيا بحتا!!! فمنذ ثلاث عشرة ((13)) سنة خلت، كنت أستعين بشريط "أهازيج الطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشي". ولا أكتم القارئ الكريم سرا: ففي البداية كانت محاولتي الجادة مغامرة صعبة شائكة للغاية، دفعت فيها الضريبة غالية جدا، بوصفي بين أوساط الأساتذة ب ((المجنونة)) !!! ولايزال هذا الوصف الذي ما فتئ يشرفني و يرفع رأسي عاليا لصيقا بنعمة عقلي إلى حد الآن: يتداوله الأساتذة وحتّى الأستاذات العقال والعاقلات، لينهشوا كل يوم مضغة وعلقة من لحمي ودمي والحمد لله على كل حال!!!
فأما الطلبة، فلقد ((صدمهم)) موقفي: لأنهم لم يتعودوا على هذه الطريقة ((الغريبة)) نوعا ما!!!
وأما ((الأساتذة)) -ولله الحمد- فلقد رأوا - بكل استخفاف- أنه: ((شيء جميل جدا أن تخوض المرأة المتحجبة "عالم الموسيقى"، لتقتحمه بنجاح وبكل ثقة في النفس، لا تتزعزع ولا تقهر))!!! إلى درجة أن إحدى الأستاذات سامحها الله وعفا عنها -وهي عضو بالبرلمان- قد اقتحمت علي قاعة التدريس ذات يوم، وأخذت توبخني على مسمع من طلبتي، فلم يهدئ من روعها الهائج، إلا حين شرحت لها أنني: ((قد طلبت الإذن من إدارة "معهد الأدب العربي" آنذاك))!!! وبهذه المناسبة، ومن على صهوة هذا المنبر الموقر، أتوجه بشكري الجزيل الذي لا ينتهي، إلى الدكتور "بوجمعة بوبعيّو": الذي كان "عميد كلية الآداب"، آنذاك... فكان هو من ((تقبل نعمة جنوني))، وبحنان الأب الرءوف بابنته، احترم طلبي للإذن منه، فسمح لي باستخدام شريط "أهازيج للطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشي"، وكنت أستخدم الشريط بطريقة تقليدية بوساطة جهاز اشتريته لهذا الغرض ...
لكن، سرعان ما تعود الجميع، على قبولي كما أنا: ((بجنوني وبلوثات عقلي: كما في تعبير من يهينون الطّاقات))، مع مرور الوقت!!! تعود طلبتي على أجواء هذه الطريقة ((العلمية))، فسجلوا حضورهم المكثف، وكان يحضر معي طلبة خارج الفوج، فكنت لا أماتع في حضورهم معي. وكنت أتبع "جينيريكا" في ا (02) في البداية و"جينيريكا" في نهاية الحصة. ولا أكاد أهم بالخروج، إلا ورأيت جمعا غفيرا من الطلبة يطوقون باب قاعة الدرس، وهم يسترقون السمع ... ولقد يحدث أن أعلن لطلبتي عن حصة إضافية، في الساعة "منتصف النهار"، فكانوا لا يمانعون في الحضور، وكم أحب المغامرات!!!
أنا لم أقصد من كلامي هذا، أن أنقل تجربتي في الميدان!!! لكنني أردت أن أنبه إلى أهمية العروض الخليلي في حياتنا اليومية، من خلال شريط "أهازيج الطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشي". وإن الإنسان، بطبعه الغريزي المتأصل في أعماقه عروضي موسيقي، لأن حب الترنم والدندنة فطرة متأصلة فيه
، كما أن البحث عن تقاسيم الجمال جذر عميق في نفسه الظمأى إلى كل جميل، و النفور من كل رديء تمجه الأسماع و يرفضه الذوق السليم الراقي فينفثه بعيدا. ومن هنا، توصل علماء النفس إلى طريقة حديثة لمعالجة الكثير من الأمراض المستعصية ، بوساطة الموسيقى.
إن شريط "أهازيج الطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشيّ"، قبس من روح العروض الخليلي، النابض من الحنايا والضلوع العربية الأصيلة، ولا أملك سوى أن أعتبره ترشيدا للطاقات الفكرية والعلمية والشعرية، ولا أملك سوى أن أعتبره ترسيخا لهذا العلم الخليلي، الذي ينبثق من صميم الجذور الإنسانية التي ينبض فؤادها بعشق كل جميل، فيحفز الهمم ويشحذ القرائح ويسمو بالأرواح نحو العلا.
وإن الشيء الجميل جدا الذي نسجله للدكتور "ناصر لوحيشي"، بشريطه الموقر الموسوم: "أهازيج الطلاب"، هو أنه قد اتخذ من ورع العلماء و من أخلاقهم الراقية وسيلة للتوصيل ، فلم يختر من الشعر إلا أجوده و أحكمه و أطهره وأنقاه ساميا بنفسه الأصيلة عن كل شعر يملأ الأجواف بالصديد، ليكون شريطه الموقر أداة بناء و تشييد ، لا معول هدم للأخلاق و القيم النبيلة... كما نسجل للدكتور "ناصر لوحيشي" أنه لم يغفل النشيد الوطني "قسما بالنازلات الماحقات" لشاعر الثورة الجزائرية "مفدي زكرياء"، ليفتتح به "بحر الرمل "!!! ومن هنا، يحيل الدكتور "ناصر لوحيشي" الأجيال إلى أن "حب الوطن من الإيمان بالله سبحانه وتعالى".
وما نسجله، للدكتور "ناصر لوحيشي": بشريطه هذا أيضا، أنه فعلا قد استطاع أن ينجح في مخاطبة كل الأعمار: من طفل في سن الخامسة (( 05 )) ، إلى شيخ في سن السبعين (( 70 !!! )) .
إن شريط " أهازيج الطلاب " : بجزئيه ، للدكتور " ناصر لوحيشي " نبع فياض ومعين لا ينضب من العلم العروضي الخليلي المتدفق شلالا صافيا . هذا العلم الراقي الذي كرم الله به " الخليل بن أحمد الفراهيذي " ، رضي الله عنه و أرضاه ، ليثبت لجميع العالم العربي ، و حتى العالم الغربي ، أن الأمة العربية (( أمة شاعرة )) ، بالدرجة الأولى ، بل إن شريط "أهازيج الطلاب"، للدكتور "ناصر لوحيشي"، يعود بنا، لينقلنا -و في رقي كبير- خطوة إلى الوراء، كي نعيش أجواء الخيمة البدوية الصافية، و ننعم بصدى "الحداء و المتح على الآبار"، أين ابتدأت ((طفولة الشعر الجاهلي))... ولقد صدق "جرول بن أوس"، المعروف ب "الحطيئة"، ولقد أصاب سهم كلامه حدقة التوفيق، حين قال: ((نقحوا القوافي فإنها حوافر الشعر))!!!
((تغن بالشعر ، إما كنت قائله ............. إن الغناء ، لهذا الشعر مضمار)).
((هوامش)):
(01)- الرقصو-لوجيا: علم الرقص . و هي كلمة خاصة بصاحبة هذا المقال .
(02)-إلى الأخ العزيز "عاطف الجندي"! "الجينيريك" ؛ أي : ((Le générique))؛ باللّغة الفرنسيّة: كلمة كانت في الأصل تستعمل لدى " صيادلة البياطرة " ، و تعني عندهم : ((تصنيف الأدوية في وصفة معينة، و يكون ذكر هذه الأدوية في سلسلة أسطر تحتية متسلسلة)). إلا أن تطور مدلول هذه الكلمة ، قد أخذ مجرى آخر، ليصبح معناه: ((الموسيقى التصويرية التي تكون في بداية و في نهاية شريط أو فيلم أو نشرة الأخبار)).
ألقاكم، بعد "الجينيريك"!!!