سأله السائق: إلى أين؟
أجاب فى رتابة ودقة: محطة القطار. وبجوار الشباك جلس منحن الرأس ممدد الأرجل وعلى ذلك المقعد كانت أوتاره تتراخى وقد رأى فيه ضالته بعد أن اضمحلت أمانيه فى قاع اليأس. أطل بعينيه على أمان هربت وذكريات وئدت تحت الأنقاض. لقد ودع بلدته فى صمت وهجر كل شىء حتى النظرة التى تنفذ عبر الحاجز الزجاجى تأبى أن تعود للوراء ثانية.
هواجسه تفرز سمومها بعمق فى قلبه لتثير بعقله نوعا من الجنون الفكرى وتحدثه.. أين المفر؟
ساعتان بينه وبين القطار, وقد حل الظلام, ومن داخل النافذة يتابع, شبابيك تغلق ومحال توصد بالأقفال, وأمنيات تعلق على جدران نوافذ, وسيدات بلا مأوى, وأخريات يلهثن متنصصات الليالى, ورجال ذوى شوارب فظة يضربوا أنثياتهم بالسياط فيشتد صراخهن مستغيثات. وعبق الماضى لا يزال فى تلك النافذة الصغيرة.
مرت ساعة وانتصف الطريق تتباعد أمنيات وتدنو أخريات, رويدا رويدا حل الوقت وبالقرب من المحطة كانت قدماه تتسلق الرصيف, ينتظر القطار, المكان يعج بالمواطنين, تعجز أذناه أن تسد ذلك الصخب الراكض حوله, فى الجانب الغربى على طرف الرصيف كانت هناك لافتة: " صحبتكم السلامة".
صفير القطار يؤذن بالموعد.. مرق القضبان عيناه تصرخان فى الوجوه وبعمق اخترق الرصيف المستقيم. نزل مواطنون وصعد آخرون تتبادل الأرجل تتبدد الأنفاس وجوه مستبشرة ووجوه كالحة. جاء دوره صعد المنفذ ودع البلدة الصغيرة، كل نظراته تتبادل العجب, مؤكد أن الأصوات الحافلة بالصخب ستتمزق رويدا رويدا, شرد مع المحيطين بدأ القطار يعلن الرحيل, هزة قليلة وبعدها اختفى القطار فى جوف السراب. ساد الصمت وانحدرت عيناه فى غفلة, أفلتت الحقيبة من يده, وفى خضوع تمدد.
وصل القطار كانت هزة كبرى, انتفض جميع الراقدين, واستيقظ هو فى فزع, أطل برأسه من شرفة القطار تتباعد عيناه فى تجوال, ابتسم كطفل, تناول حقيبته من القاع, ببطء تحمل المواطنين حتى نفذ خارج بطن القطارإلى فوهته, وانحدر نحو الرصيف. أدهشته البلدة الجديدة, وأخذ يقلب ناظريه يمنة ويسرة.
لم يرها من قبل فقط كان يسمع عنها, مثل الحواديت, بلدة جميلة أشجارها باسقة تكاد تخرق السماء أوراقها تتهادى فى تبجل, عبيرها يختطف الأنفاس, بعض من الرياحين توزع على جانبى الرصيف. كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها "رحلة سعيدة".
بالرغم من سعادته كان هناك شيئ مخيف ربما الرهبة الأولى. ولكنه سنح للحب فرصة جديدة لتمحو ما قد حرم منه فى بلدته الأولى. وكالآخرين انغمر فى زمرة الرصيف.