الشاعر النبي واليقين المعرفي في شعر
محمد إبراهيم أبو سِنـّة
كتب إبراهيم موسى النحـّاس :
شهد العالم العربيّ منذ بدايات القرن الماضي تحولات كبيرة على المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية كان لها أكبر الأثر في تطور القصيدة العربية لتطل علينا الاتجاهات الرومانتيكية التي تبنّت فكرة الذات الفردية والانكباب عليها والتزام القصيدة مبدأ الوحدةوالصدق الفني والشعوري والتفاعل مع الطبيعة والميل إلى تشخيصها وإسقاط مشاعر الشاعر عليها مع مسحة من الحزن والميل نحو التشاؤم والاستسلام لليأس . ومع ظهور حركات الكفاح العربيّ ضد الاستعمار وسقوط ملايين الشهداء العرب من المحيط إلى الخليج , وظهور قضية فلسطين وما واكبها من حروب ضد العدو الصهيونيّ , ومع التقدم الغربي وما يقابله من وجود أنظمة عربية قمعية ساهمت في خلق الفساد السياسيّ والمجتمعيّ, كل هذه العوامل ساعدت مع غيرها على تحول الأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة نحو الواقعية والتمرد العنيف على الرومانسية , لنجد القصيدة الجديدة تستلهم موضوعاتها وألفاظها من الواقع المحيط بالشاعر , قصيدة تعبّر عن الذات باعتبارها تجنح أكثر نحو الذات الجمعية لا الفردية التي ركزت عليها القصيدة الرومانسية من قبل , ويصبح القلم كاميرا ترصد بدقة في لقطات سريعة ومتتابعة مفردات الواقع وتفاصيله بكل ما فيها من قبح وجمال بل تتجاوز هذا الرصد إلى استشراف المستقبل في أحيان كثيرة .
و التعامل مع الواقع على هذا النحو جعل من الطبيعي ظهور فكرة الشاعر النبيّ الذي يعرف كل شئ إيماناً من الشاعر بدوره التنويري في توجيه المجتمع نحو رؤية الشاعر للحياة والواقع المحيط به وتصوره للجمال والقبح , بل يطرح النهايات والحلول أحياناً .وهذا ما صرّح به شعراء هذا الجيل من خلال قصائدهم الشعرية أو من خلال آرائهم النقدية . فيقول صلاح عبد الصبور:
(( كنت اعتقد دائماً أن عِدّة الشاعرهي رؤية شعرية حية وثقافة معاصرة متأصلة أو بعبارة أوضح وجدان يقظ وفكر لمّاح مُدرَّب , الشاعر بحاجة إلى رضا الإلهين الإسطوريين وديونيزيوس إله البداهة والإحساس المنطلق والنشوة المجنحة وأبولو إله الفكر والتأمل والمعرفة )) ( 1 ) .
ويرى الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة أن الشعر ابن الحياة الحرة بكل تجلياتها , فيقول محدداً رؤيته للشعر : (( ولا شك أن الشعر كلما كان قريباً من التجربة الحسية الحرة التي ترتبط بالضرورة الوجودية أكثر من الضرورة الوظيفية كلما جاء قوياً فتياً مؤثراً لأنه ينتسب إلى أصله الشرعي وهو الحياة , الشعر ابن الحياة الحرة بتجلياتها الواقعية والوجدانية والأخلاقية )) ( 2 ) .
هذا التصور الجديد للشعر يختلف عن شعر الحكمة العربيّ في تراثنا الشعريّ , فالحكمة رغم كونها تصدر عن الشاعر النبي صاحب المعرفة والعقل لكنها كانت هدفاّ في حد ذاتها وربما كانت لا ترتبط بالجو النفسي للقصيدة , لكن في عصرنا الحديث أصبح الفكر يحمل طابعاً وجودياً مرتبطاً بواقع الشاعر والقصيدة معا , فالشاعر إما أن يكون الشاعر العليم بالواقع يعرض رؤيته ويطرح التساؤلات ليشجع القارئ على المعرفة أو أن الشاعر يخلق واقعاً ما من خلال رؤيته الخاصة به التي يعرضها في شعره .
تلك العلاقة الوطيدة بين الشعر والواقع ساهمت في ظهور نظريات عديدة تربط بينهما مثل علم اجتماع الأدب وبعض النظريات النقدية مثل جهود البنيوية التوليدية وأراء لوسيان جولدمان التي تؤمن بأن داخل كل عمل أدبي بنية كلية مهيمنة ومسيطرة لها مردود في بنية اجتماعية أكبر ينتمي إليها الأديب أو الشاعر .
وصورة الشاعر النبي الذي يعرف الحقيقة ويعي واقعه تتجلى في نتاج محمد إبراهيم أبي سنة منذ ديوانه الأول مرورا ببقية أعماله مع غزارتها فيعلو صوت الشاعر النبي في الديوان الأول , يعلمنا أننا لا نعيش مرتين وأننا نموت كل يوم لقسوة هذه الحياة ومرارة هذا الواقع حتى أن الإنسان يفكر أن يقتل زمنه لسبب وجيه ومقنع هو أن المدينة التي يعيش فيها تقوم على الكراهية لأنها لم تعشق :
(( دعيه يكمل الحديث
لم يقل جميع ما لديه
لا تسحبي يديك من يديه
فنحن لا نعيش مرتين
ونحن إنما
نموت كل يوم ))
ويكمل قائلاً :
(( لكن يا حبي
لو أن مدينتهم عشقت
ما فكر إنسان أن يقتل زمنه
كان سيبحث عن عمر ليضاف إلى العمر
حتى البسمات هنالك
قد نسيت فوق شفاههم
من أقدم عصر )) ( 3 ) .
والمدينة – التي لا تعشق – لدى الشاعر محمد إبراهيم أبي سنة دالة شعرية لها مكانتها في شعره كغيره من شعراء القرى الذين أتوا إلى المدينة ففتنوا بها واصطدموا مع قيمها المغايرة في نفس الوقت (( فقد استطاع الشاعر المعاصر من خلال ذلك الصدام بين عالم القرية وعوالم المدينة أن ينتج لنا رؤية شعرية تعد بحق إضافة على قدر كبير من الأهمية إلى رصد التجربة الإنسانية عامة والتجربة الشعرية على وجه الخصوص )) ( 4 ) . ودالة المدينة من أهميتها جعلت أحد الباحثين يفرد للشاعر مساحة كبيرة من الاستشهادات في كتابه ( المدينة في الشعر العربي المعاصر ) رصد المؤلف فيه لصور المدينة ورؤية الشعراء لها وخلص في دراسته إلى أن (( الشاعرمحمد إبراهيم أبو سنة من الشعراء المؤمنين بالتوجه الاشتراكي في الحياة والأدب وهو من أجل هذا يحمل على الطبقية )) ( 5 ) .
وفي هذا الصدام وفي التعامل مع المدينة لم تغب صورة الشاعر النبي العارف :
(( بالأمس يا حبيبتي خرجت للطريق
لأقرأ الهموم في العيون
همومهم
أولئك الذين يعبرون
في شارع المدينة الحزين )) ( 6 ) .
فهو يستطيع أن يقرأ الهموم في العيون ويجزم أن شارع المدينة حزين . ويطل الشاعر علينا بنفس اليقين المعرفي في ديوان ( تأملات في المدن الحجرية ) حيث يعطينا نصيحة مُرّة ومؤلمة ويكررها في نهاية المقطع قائلاً :
(( الأضواء الليلية
تكتب في العيد الألف
لصمود الدمعة في أعين آلاف الجوعي
كلمات صفراء
كلمات حمراء
أتبين منها وسط ضجيج الليل
بضع حروف
تهمس في خجل واستحياء
الصبر سلاح الضعفاء
الصبر سلاح الضعفاء )) ( 7 ) .
ولا ضرر من اللهجة الخطابية طالما تتناسب مع تلك الصورة صورة الشاعر العارف بالأمور الذي يخطب في مريديه :
(( لا يمكن قتل الكلمة
لا يمكن قهر النور بأعماق الإنسان
الإنسان – الإنسان
كون من أشواق وأغان )) ( 8 ) .
هذا اليقين المعرفي الذي يفرض على المتلقي رؤية لا ثان لها هي رؤية الشاعر تجاه الواقع والحياة والوجود يعكس دور الشاعر وأهميته ونظرته للفن باعتباره اختيار من أجل الحياة ويبرز القيمة الاجتماعية للأدب ودوره التنويري من وجهة نظر الشاعر :
(( انظر
هذا البهتان
يمشي في الأسواق
يتوج كل النخاسين
بتاج الإحسان
يمنح كل المحتالين
صكوك الغفران
يلقون عليه
أردية البركات )) ( 9 ) .
لكنه يقين لا يقوم على التلقين المباشر بل يتكئ على آليات فنية كاستعمال الرمز وتوظيف الحالة الإنسانية الوجودية , وهو ما يعطي للتجربة الصدق والتأثير والحياة , بل بقوم على الهدم لإعادة البناء في أحيان كثيرة , ولنتأمل معاً هذا المقطع :
(( لا تجلسي حسيرة على الذي مضى
ولا تطاردي طيوره البيضاء
تلك التي بدون أجنحة
تفر في السماء
تذوب في البكاء والضحك
بل أشعلي قنديلك الوردي واحمليه
إلى طريق النهر حيث تهزج الرياح
بذلك الذي قد عاش بالألم
وعلقيه في أشعة القمر )) ( 10 ) .
تلك القيمة المعرفية وذلك الدور التنويري للشاعر بقدر إيمانه بأهمية شعره في كشف وتعرية الواقع وقيمته المجتمعية لكنه على الجانب الآخر يفرض سلطة عليا على المتلقي هي أديولوجية الشاعر ورؤيته للأشياء فلا يعطي للقارئ أدنى فرصة للتأويل – اللهم إلا تأويل الرمز فقط – ليبقى داخل النص عقل واحد وفهم واحد ورؤية واحدة تخص الشاعر فقط ومن قد يؤمن بها , ومع نجاح الشاعر في تضفير هذا اليقين المعرفي بتجربة وجودية حية ومؤثرة بفضل الاعتماد على القيم الروحية والإنسانية مع التشكيل اللغوي القائم على توظيف الرمز والصورة الكلية , مع مزج ما هو ذاتي بالهم الإنساني العام . لكن مع نسبية المعرفة وتنوع بل تعارض نظرة الناس للواقع والأشياء ونسبية الحكم بالقيمة تجاه مفردات هذا الواقع ومع إصرار الشاعر بعد ذلك على أن يكون الإنسان فقط تمرد عدد كبير من الشعراء الشباب على صورة الشاعر النبي في القصيدة العربية وأصبح النفي المطلق مساوياً للإثبات المطلق عند البعض لنجد من ينادي بتلك النسبية في الحكم بالقيمة وفي رؤيتنا للأشياء فيرى أننا (( يجب أن نولي النفي المعرفي نفس قيمة الإثبات المعرفي إن لم نزد حتى تبزغ منظومة جمالية معرفية جديدة تتبلور بالتواتر والتردد والانتخاب الطبيعي لتقترن التجربة بالتجريب بوصفه منظومة جمالية ومعرفية )) ( 11 ) .
الشواهد :
1- انظر صلاح عبد الصبور – الأعمال الكاملة – الجزء التاسع : أقول لكم عن الشعر . الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة سنة 1992 ص 285
2- ( ظلال مضيئة ) محمد إبراهيم أبو سنّة – سلسلة كتابات نقدية – العدد 76 الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – ص 245
3- ديوان ( قلبي وغازلة الثوب الأزرق ) محمد إبراهيم أبو سنّة - دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 1996- ص 10
4- ( محمد إبراهيم أبو سنّة الخطا والأثر ) د . عبد الحكم العلامي . سلسلة كتابات نقدية العدد 175 الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة ص 46
5- ( المدينة في الشعر العربي المعاصر ) د . مختار علي أبو غالي . سلسلة عالم المعرفة – العدد 196- ص 166
6- ديوان( قلبي وغاازلة الثوب الآزرق ) محمد إبراهيم أبو سنّة ص32
7- ديوان ( تأملات في المدن الحجرية ) محمد إبراهيم أبو سنّة – الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1979 ص 29
8- ديوان ( مرايا النهار البعيد) محمد إبراهيم أبو سنّة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987ص86-87
9- ديوان ( موسيقى الأحلام ) محمد إبراهيم أبو سنّة – الدار المصرية اللبنانية سنة 2004 - ص 34
10- ديوان ( أجراس المساء ) محمد إبراهيم أبو سنّة- الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1975- ص 19
11- ( خطاب النظرية خطاب التجريب – تفكيك العقل النقدي ) د . أيمن تعيلب – سلسلة كتابات نقدية العدد 194 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – ص 205