اندفع باب السيارة السوداء بيد خفية, ثم هبط حذاءان سوداوان أنيقان ومالبثتا أن تثبتتا بتراب الأرض حتى انتصب عود الرجل الوسيم وأخذ يقلب بعينيه خلف النظارة السوداء فى الأشياء القريبة والبعيدة كنظرة ابن النار لابن الطين .. ثم مشى يتحسس بحذائه الثمين طريقا يحافظ على بهاء حذائه الإيطالى يلعب بمفاتيح السيارة فيختلط صوتها بصوت بائع الروبابيكيا وصياح أطفال يلعبون الكرة وبعض أصوات البيوت التى هربت من أصحابها معلنة عن أسرار تثير الضحك والإشمئزاز, وأصوات أخرى لايعرف أحد مصدرها لكنها كونت الكتلة الصوتية للحارة, قد لا تكون حارة بدونها.
وما إن سار بضع خطوات حتى أوقفه صوت سيدة عجوز تستند بظهرها المنحنى إلى حائط عريض, تبدو كهيئة حيوان ضعيف لفظه رحم أمه لتوه تلوذ بجسدها النحيل داخل قماش أسود كالخرقة, رفعت وجهها المجعد إلى وجهه وعلى كتفه قرص الشمس الذى نثر أشعته حول رأسه حتى بدت السيدة عاجزة عن تبين ملامحه. أخذت تدعو له بالنجاح والهناء وراحة البال, فتوقف وسلط عليها نظارته وأخذ يرمقها بنظرات تشى بالازدراء. أخذت السيدة العجوز تتلمس بنطاله الأسود الأنيق وتردد: "الله" ... فركلها الرجل بحذاءه صائحا فى وجهها: "ألا تخجلى أيتها العجوز. لقد لوثتى البنطال بأصابعك القذرة.. فلتذهبى إلى الجحيم" قالها ورحل, صرخت العجوز بأدعية من جهنم الحمرا تحمل له الموت والطاعون, ثم مالت بظهرها الأثرى لتجمع العملات المعدنية التى وقعت من حجرها واختلطت بالتراب, لم تأبه لقطرات الدم السوداء التى سالت من أنفها ورأسها فاكتفت بمسحها بكم عباءتها البالية.. رحل يظبط هندامه متمتما: "ألا يخجلون هؤلاء النتنى, ألا يرون حتى شحاذى لندن أو باريس, يشحذون بفنهم وميسيقاهم ؟! الرحمة, وأنّى لهم أصلا برؤيتهم وهم هنا لا يعرفون سوى النفايات والروائح القذرة والحيوانات الضالة. كم هو عسير حقا هذا الوقت الذى سأضطر قضاؤه هنا بين هؤلاء النتنى " احتفظ لنفسه بتمتماته ثم عرج إلى محل بقالة ليشترى علبة سجائر . اشتراها ثم استكمل رحلته الشاقة, وما إن توقف عند منزل معين تفحص جوانبه ببعض النظرات واستعان ببعض المارة حتى تأكد لديه أنه مايبحث عنه...
صعد درجات السلم بعدما ألقى عقب سيجارته التى كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.. حتى ذهب رمقها الأخير تحت نعل ثقيل..
كان كل شيء يسعى كما تسعى الشمس: ينشطون حين تشرق ويخبو نشاطهم حين تخبو جذوتها فى الغروب فترحل بهدوء تاركة ستائرها الذهبية سلواهم حتى يستريحون ويُسلِّموا أجسادهم المتعبة للنوم العميق..
وكانت الشمس قد أعدت عدتها للرحيل بعد أن مرت دقائق حين خرج الرجل من الباب يضبط هندام بدلته السوداء ويثبت نظارته ثم عاد من نفس الطريق..
ولما اقترب من موضع العجوز وجد صخب وبلبلة وتجمع لأناس كثر حول موضعها فلما جاورهم ألقى نظرة خاطفة ووجد السيدة العجوز يسيل من رأسها دم غزير بينما كانت مغشية يحاول أحدهم إفاقتها ..
بينما كان أحدهم يصوب إلى نظارته نظرات نارية كادت أن تحرقه لولا أن ألقى خلفه هذا المشهد متجها نحو سيارته متمتما بكلمات مسموعة كأنه يهزى أولا يدرى بما يقول: "ثم إنهم أناس قذرون إن لمسوا ملابسنا تلوثت ومن يدرى فقد يصيبنا عدوى" ثم نظر إلى حذاءه : "وليتنى لم أضربها بحذائى فيتلوث كما تلوث بنطالى"
ركب السيارة وانطلق..
مرر راحة يده اليسرى على شعره : "لماذا اضطررت إلى المجئ هنا !"
ثم أدار مفتاح الراديو : عبد الحليم يغنى....
أداره ثانية: تواشيح للنقشبندى.... استمع إليه
ثم أداره مرة أخرى: مطرب حديث يغنى بصخب وإزعاج بآلات حديثة.. ترك المحطة
سلّم نفسه لصمت الطريق السريع الخاوى ولهبّات الهواء المداعبة شعره الناعم وصخب الأغنية الحديثة...
وبينما هو كذلك مسلّم يديه للمقود ورأسه لمداعبة الهواء وجسده لحالة الصمت الصاخب. إذ رأى جماعة من الناس يزيد عددهم على عشرين شخصا على يمين الطريق يسلكون دروبا لأرض زراعية يحملون كفنا, فتعلق نظره عليهم لسبب لا يعرفه ومالبث أن عاد ينظر إلى الطريق أمامه فوجد شاحنة كبيرة تقترب بسرعة أكبر من سرعته فأدار مقود السيارة بأقصى ما يستطيع حتى انحرفت السيارة إلى جرف واسع جانب الطريق. بدت إلى حشدهم كأنها عملة معدنية ترفرف فى الهواء حتى اصطدمت بأرض صلدة فانفجرت فى صورة مروعة تشبه إنفجار قنبلة ذرية فتصاعدت قبب من النيران يصاحبها دخان أسود كأنها سحب تتصاعد من الأرض إلى السماء...
كان العشرون رجلا قد توقفوا يشاهدون الحادث, يتملكهم الذعر والذهول, حتى خمدت نيرانها فذهب بعضهم إليها لإنقاذ أى ناج, وما أن اقتربوا منها حتى نفذ دخانها الكريه إلى صدورهم وأحسوا بحرارة شديدة كحر القيظ وهم بعد فى ساعة غروب...
اقترب رجلان من نافذة السيارة وبعض ألسنة اللهب تقاوم الخمود ودخان كثيف يتصاعد منها وباقترابهم وجدوا الرجل وقد تفحمت جثته تماما وطمست مملامحه, وسمعوا صوت ينبعث من داخل السيارة؛ كان صوت الأغنية الصاخبة .
حاولو إخراج جثته وفتشوا عن أى إثبات هوية لكن كل شىء قد احترق حتى لوحة السيارة انصهرت.
ولم يعرفه أحد. فقرروا دفنه بجوار السيدة العجوز.