زحمة رغيف العيش

تنتابني حسرة شديدة كلما شاهدت طوابير تمتد إلي مسافات طويلة أمام الأفران. بين هؤلاء الزاحفين نحو نافذة المخبز شيوخ وعجائز من السيدات وشباب يزاحم الكبار ويحاول تخطي كل من يسبقه. مشاجرات وسرقات وظواهر دخيلة علي مجتمعنا. كل ذلك يحدث من أجل الحصول علي رغيف العيش. أمام هذا المشهد المتكرر في حياتنا هذه الأيام تقفز إلي الذهن الصورة الحضارية لذلك الزمن الجميل. حينما كانت "الأجران" جمع جرن تنتشر في الساحات والأرض الفضاء حيث تمتلئ بأكوام القمح. يجري "درسها" بواسطة "النورج" تلك الآلة التي لا تعرف عنها الأجيال المعاصرة أي شيء . وكان موسم الحصاد موعداً للأفراح. فالقمح سوف يخزن في الصوامع. ووابور الطحين سوف يتولي تحويل حبات القمح إلي دقيق. تقوم الفلاحات بتحويله إلي خبز ومن العيب في ذلك الزمن أن يحصل ابن القرية علي رغيف العيش من المدن أو البندر. رخاء وخبز متوافر. وكان أهل القري في ربوع ريفنا يسودهم اعتقاد يتضمن أن الرغيف طالما كان موجوداً بالبيت فيكفي أن يكون "الغموس" أي شيء ولو قطعة جبن من إنتاج لبن الحيوانات التي يربيها الفلاح في حقله ويجهز لها حظيرة في منزله.
مع مرور الأيام وتغير السياسة الزراعية وتخصيص مساحات لكل محصول من المحاصيل أخذت تنحسر زراعة القمح بالاضافة إلي تدني أسعاره وأخذت أفراح موسم الحصاد تتواري وبدأت مظاهر ما يجري في المدن تزحف نحو القري. فبدأت محلات بيع العيش وانتشرت بنايات المخابز بصورة مبدئية وظل معظم الفلاحين يعتمدون علي جهودهم الذاتية في إنتاج رغيف العيش بما يكفي أسرهم. ومع تضاؤل المساحات المنزرعة قمحاً انصرف الفلاح عن زراعة القمح وأخذ يبحث عن نوع آخر يدر عليه دخلاً كبيراً. بحيث يستطيع تدبير شئونه المالية. فانتشرت مزارع البطيخ والخضراوات بدلاً من القمح وكان فدان البطيخ يعطي مبالغ مالية يساوي أضعاف ما يحصل عليه من القمح وبالتالي امتدت هذه الظاهرة إلي باقي القري. وتحول موسم الحصاد إلي سوق يمتلئ بأنواع من البطيخ والشمام والخضراوات بأنواعها وأصبح الفلاح يبحث عن الخبز. أحياناً يشتريه من المدينة بعد بيع محصول البطيخ أو الخضار. ومن النادر أن تجد بيتا بالقري لديه خبز طازج كما كان في الستينيات ومنتصف السبعينيات. بالاضافة إلي أن الدولة تغاضت عن إلزام الفلاح بتوريد كميات من القمح إلي بنك التسليف الزراعي.
ظل الفلاح لا يفكر كثيراً في زراعة القمح فالبطيخ وغيره يدر مبالغ تكفي لشراء الخبز. وتحولت الصوامع إلي "عشش" للفئران والحيوانات الضالة وعندما أسير وسط شوارع القرية أتحسر علي الزمن البعيد الذي كان دخان الأفران يملأ السماء. وعزائم أهل الريف تتوالي لتناول الخبز الطازج مع اللبن الحليب والقشدة والمنتجات المتعددة من الجبن. بعضها قريش. والبعض الآخر بخيره. ونوع ثالث يجري إعداده طازجاً ممزوجاً باللبن والقشدة معاً. يتم إعداده للضيوف أو بصفة عاجلة عندما لا تجد ربة البيت أي شيء تقدمه لأبنائها العائدين من المدارس أو الحقول. مظهر جميل يؤكد أن الفلاح قادر علي إنتاج غذائه وخبزه!!
اختفت كل المظاهر. انتاج الخبر داخل المخابز بالقرية. محلات بيع الدجاج تملأ الشوارع. أصبحت القرية لاتختلف كثيراً عن المدينة. الدقيق يتم استيراده من الخارج ويصل إلي القري في أجولة بعربات النقل. ووابور الطحين تعطل. المدنية فرضت نفسها علي كل بيت بالريف وعندما تسأل لماذا لم تعد البنات تتولي عمليات "خبيز" العجين مثل أمهاتهن وجداتهن؟. يأتي الرد بأنه من العيب أن تجلس البنت المتعلمة المدرسة. الصيدلانية - المهندسة وغيرهن أمام الفرن. موضة وأفكار بالية. وبالتالي أخذ الفلاح يبحث عن رغيف العيش ويقف في الطابور بالساعات مثل ابن المدينة.
للأسف هذه الظاهرة ساعدت الدولة علي انتشارها وشجعت الفلاح علي إنتاج محاصيل كالفراولة والياسمين وأصبحت زراعة القمح من التقاليد البالية. ولا أنسي ذلك اليوم الذي كنت فيه أتمتع بزيارة أخري وفوجئت به يقول: سوف نحضر لك عيشاً طازجاً من فرن أحد أقاربنا أنشأه علي نفقته. ويريد منك أن تساعده لكي تتولي إدارة التموين بالمحافظة زيادة كمية الدقيق التي يحصل عليها. وأخذ يعدد مزايا خبز الفرن نصف الآلي وسرعته. ولم أنطق بأية كلمة وصرت أستمع لأخي شارد الذهن. وهنا بادرني أخي قائلاً: مالي أراك منصرفاً عني؟ قلت: لا أريد خبزاً "نصف آلي". أريد الخبز الفلاحي. فقال: أصبح الآن موضة قديمة. تصور أن قريبنا هذا باع ثلاثة أفدنة من الأرض الزراعية لشراء المخبز الألماني. قلت في نفسي ماكان أغنانا عن ذلك بالخبز من إنتاج الفرن القروي.
تمادي الفلاح في زراعة الخضراوات المختلفة والفُل والورد والبطيخ والشمام . وأصبح القمح محصولاً ثانوياً إنتاجه ضعيف وسعره رخيص. الدولة لاتهتم بانتاجه. وساد منطق غريب يؤكد أن استيراد القمح يتكلف أقل كثيراً من زراعته وإنتاجه في بلادنا. وظلت الأمور تجري علي هذا النحو حتي صحونا أخيراً علي أن سعر القمح قد ارتفع بصورة رهيبة وأن هناك أبحاثاً تشير إلي استغلال الحبوب في توليد الطاقة. وبالتالي أصبح السوق المحلي يعاني نقصاً شديداً في الدقيق. وغاب عن أذهاننا جميعاً أن من لا يملك قوته "خبزه" لايملك حريته. وأصبح يبحث عن كيفية استعادة موسم الحصاد. وأخذ يقلب صفحات الجرائد وأخبار وكالات الأنباء التي تؤكد أن العالم يعاني نقصاً شديداً في القمح والغذاء. وأخذت منظمة الأغذية العالمية "الفاو" تدق ناقوس الخطر. وبدأنا نفيق بعد طول سبات ونبحث عن الوسائل التي تشجع الفلاح علي زراعة القمح بالاضافة إلي إعداد الخطط والبرامج لتعديل السياسة الزراعية وزراعة كل شبر بالقمح حتي نستطيع تحقيق الاكتفاء. لكن كل ذلك جاء بعد فوات الأوان.
الأمر يتطلب وقتاً وأساليب لجذب الفلاح مرة أخري للإقبال علي زراعة هذا المحصول. واتخاذ التدابير التي تكفل توفير تقاو من سلالات جيدة تدر محصولاً وفيراً. وأن تقوم وزارة الزراعة بمبادرة من جانبها لارشاد الفلاح إلي أفضل الأساليب الزراعية مع توفير الأسمدة والسماح بتجاوز المساحات المحددة لزراعة القمح. الأمر يتطلب سرعة اتخاذ الاجراءات التي تكفل العودة إلي إنتاج محصول وفير من القمح وأن يتم تكليف كل مزارع بتوريد كميات محددة وبأسعار عالمية ترضي طموحه وتلبي احتياجاته المادية. وتشجيعه بمنحه سلفاً نقدية والوقوف بجانبه حتي يقبل علي زراعة القمح بنفس راضية وقناعة تامة.
الصورة أمام المخابز لا ترضي أحداً. الطوابير وصمة عار في جبين كل منا ولابد من تدارك الأمر قبل أن تحدث مجاعة ويومئذ سوف يكتوي الجميع بالنيران . أتمني أن تتخذ وزارة الزراعة زمام المبادرة خاصة ان علي رأسها وزيراً ينتمي إلي عائلة سجلها حافل في ميدان الزراعة. ونأمل أن نري علي يد أمين أباظة موسماً حافلاً بكميات كبيرة من القمح تحقق الاكتفاء الذاتي. ان في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد!!

الاخت سارة
موضوع شيق و جميل

afro

شكرا يا سارة معك ألف حق
و ذكرتنى بقصيدة كتبتها فى بدايتى الشعرية عن رغيف الخبز من حوالى عشرين عاما
قلت فيها
يا رغيف الخبز يا حلما توارى خلف أستار المغيب
و كأننى كنت أتنبأ بيوم كهذا يصير فيه الحصول على رغيف الخبز
حلما بعيد المنال

بارك الله فيك

و مشكلة كبيرة بالفعل
شكرا يا سارة

شكرا لك يا سارة

مشكور يا أخى
ربنا يحلها من عنده

» زحمة سير
» رغيف..!!
» رغيف حواوشــي
» رغيف ورغيف
» رغيف الخبز ..و أزمة الضمير