الإنسان , ذلك الكائن الغرائبي , الذي أستطاع أن يبني الحضارة والدمار , الحرية والقهر , الأمل واليأس , الذي أستطاع أن يبحر في سماء المعرفة , وأن يهوي في براثن الجهل , الذي أستطاع أن يرسم على الأرض لوحة سيريالية مريبة , مليئة بالطلاسم والألغاز , لذلك سوف أحاول في تلك السطور القليلة , أن أقترب منه , أن أتلمس اللوحة , أن أحبو خلف الحقيقة .
المدخل السليم لفهم الإنسان يكون عن طريق فلسفة المعرفة , أو مايسمى بالأبستمولوجيا , فلكي نفهم الإنسان علينا أولا ً أن نفهم كيف يفكر وكيف يشعر , وبطبيعة الحال كيف يستطيع أن يصل إلى الحقيقة , أو على العكس تماما ً , كيف يقع في براثن الجهل .
السبيل الأول لمعرفة الحقيقة هو العقل , والعقل البشري يستطيع أن يفكر بطرق مختلفة وبطريقة تلقائية على حسب الموضوع الذي يفكر فيه , فإذا كان يفكر في العلوم فأنه يتبع المنطق الأستقرائي لفرانسيس بيكون , وإذا كان يفكر في قضايا فلسفية أو ميتافيزيقية أو شرعية فإنه يعتمد على الأستنباط , وإذا كان يفكر في قضايا واقعية فإنه يعتمد على المنطق البراجماتي , بمعنى أن الفكرة السليمة هي التي أستطيع أن اطبقها على أرض الواقع , وأن تنجح تلك الفكرة في الوصول إلى الهدف المنشود منها , لكنه في كل الأحوال منطق , والمنطق شبيه بالرياضيات , بمعنى أنه لا يخطيء , إذا وضع في مكانه السليم .
أما السبيل الثاني لمعرفة الحقيقة فلا يكون إلا عن طريق النفس , والنفس البشرية تستطيع أن تصل إلى الحقيقة عن طريق الحدس المباشر , لكنها أي النفس تستطيع أن تزين الأمور لكي تتناسب مع ما تهوى وما تشاء , فإذا كانت النفس سوية تستطيع أن تصل إلى الحقيقة بسهولة ٍ ويسر , أما إذا كانت النفس غير سوية فأنها تسقط في شرك الأغتراب .
أذن فيجب على الإنسان أن يتبع المنطق السليم , وأن يرى بنفس سوية , لكي يؤمن بما يجب أن يؤمن به , ولكي يطبق ما آمن به على أرض الواقع , وإلا أصبح مغتربا ً , مغتربا ً عن إنسانيتة , عن ذاته , لأنه رفض مايميزه عن سائر الكائنات , رفض قبول الحقيقة , وبطبيعة الحال , رفض إعمار الأرض .
إذا أصيب الإنسان بالأغتراب , فأنه لن يؤمن سوى بالمصلحة , وبطبيعة الحال سوف يعتدي على حقوق الآخرين , ومن هنا يبدأ الصراع داخل المجتمع .
الحضارات أيضا ً كالإنسان , فالحضارة السليمة هي التي تبنى على أيدولوجيا سليمة , ومن ثم يبدأ أهل تلك الحضارة في تطبيق تلك الأيدولوجيا على أرض الواقع , فتتكون ثقافة أي طريقة حياة أو كما يقال في علم الأنثروبولوجيا ( way of life ) , وفي المرحلة النهائية تتكون الحضارة بشقيها المادي والمعنوي ( العلوم والفنون والآداب ) , أما إذا لم تكن الحضارة مبنية على أيدولوجيا سليمة , فانها تكون قائمة على المصلحة والبراجماتية البحته , وبطبيعة الحال سوف تعتدي على الحضارات الأخرى , ومن هنا ينشىء صراع الحضارات .
والأغتراب نوعان , أغتراب إرادي وإغتراب قهري , فعندما أكون أنا المعتدي يكون الأغتراب إراديا ً , وعندما أكون أنا المعتدى عليه يكون الأغتراب قهريا ً , والصورة هي هي بالنسبة للحضارات , فالحضارة تشعر بالأغتراب القهري عندما تعتدي عليها حضارة أخرى فتسلبها قوتها وتعتدي على مقدساتها .
وأخيرا ً يجب أن أقول أن الدين السليم هو الذي تتلقى كتابه فتجده متوافقا ً مع قلبك وعقلك , والأيدولوجيا السليمة هي التي تكون متوافقتا ً مع قلبك وعقلك .