النسر...ارنب سابقًا

هو ارنب ككل الارانب..يحيا ليأكل..يتكاثر..ثم يُؤكل..
مصيره أن يصبح حلة ملوخية بالارانب..ثم يُهضم، و ينزل مع الإخراجات التي تنتهي رحلتها بالمواسير إلى البلاعة العمومية..
كم حقير أن تحيا مقيدًا بسلاسل قدرية محتومة مسبقا..فلا تقاومها، فتصدئ و تزداد خشونتها على اطرافك..حتى تتبخر أنت، و تبقى القيود مدى الحياة يتوارثها الاجيال على مر الازمنة..و إلى نهاية الازل..
...بطاقة هويته مكتوب فيها..
الاسم : ارنب بن ارنب بن ارنب إلخ..
النوع : لا يهم على عكس السن..
السن : ما زال صغيرًا..إذن يستحسن أن يُنقل من المزرعة إلى الداجن..هو و باقي الارانب في مثل سنه..
على عكس كل الارانب و الحيوانات ارنب لديه عقل..و قلب..و لا بأس في كونه مختلف تمامًا عن ارانب الأرض..
فمن المعروف أن الله -عز و جل- قد ميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل..
و كان من الواضح ان الله -عز و جل- قد منه ارنب بن ارنب هذا التمييز عن باقي الارانب و الحيوانات..
كثيرًا ما سأل ارنب نفسه، لماذا لا اهرب؟ و إن هربت..ماذا سأفعل؟ مع من سأهرب و إلى من سأهرب؟ لماذا كل الارانب لا تفهمني؟ بل إنني ابدو غريبًا عنهم و بينهم..هل أنا الغريب..ام هم؟؟
كان يثق أن عمره قصير..و كان كابوس مصيره المحتوم يطارده، كل الأرانب ولدت لتأكل و تتكاثر ثم تؤكل !
اما هو فلا يعرف النوم ولا الطعام..ولا الغريزة..لابد أن يصنع معجزة في حياته، لأن الله قد وهبه التمييز..فلا يجب أن يضيعه، إنها رسالته السامية..
فكر و فكر..ثم إنتهى من التفكير فاستراح بأن فكر..
سأغير مصيري، و كان هذا ما هداه عقله إليه بعد تفكير عميق..
لكن كيف؟ كيف سأهرب؟ عندما يرحل الفلاحون عند الغروب إلى ديارهم..سأقفز من قفصي..لكن كيف؟ و القفص مغلق ! إذن علي أن اهرب ظهرًا و الجميع منشغلون بالغيطان، كيف؟ غير مهم..لكنه امر لا مفر منه !!
اشرقت شمس يوم جديد على الحقول الخضراء الغنّاء المزهرة، لكنه ليس كأي يوم..إنه فرح واد العمدة، إذن هناك وليمة ضخمة..عليها ما لذ و طاب من ضاني، بتلو، فراخ، ديوك و محاشي...و ارانب !
كان ارنب يجلس وحيدًا في زاوية من زواية القفص، فهو منبوذ من سائر الارانب في القفص، لأنه مختلف..
كان يجلس في امان الله، و فجأة لاحظ حركة غريبة في الغيط..
نفس الصبي الذي يأتي كل مرة لأخذ الارانب ليذبحهم، يقف امام القفص، يختار بعينه الاصغر..بين ارانب ليس فيها عجوز..
و الخوف يهرول من اعين ارنب..نظرات المتبادلة بين الارانب اللاعاقلين..و ارنب يسبح فيه العقل..هو يفهم، هم لا..
تنهال يد الصبي على عدة منهم..تمسكهم من آذانهم..
اغمض عينه..و تراجع، فأفلت من ايدي الصبي،
فأمسك الصبي بأرنب آخر..اغمض عينه للحظات اخرى..
ثم فتحها حذراً، فرأى الصبي و قد اخذ عشرة ارانب للجزار الذي يستطيع صديقي ارنب أن يراه من القفص بوضوح و هو جالس على بُعد امتار..يجهز سكينه البارد..اغمض ارنب عينه مرة اخيرة..
فتحها على لوحة حمراء..دماء الارانب التي ذبحت تسيل..إنه المصير..
احشاء متناثرة, طين ممزوج بالدماء...عيون قاتل مليئة بالشهوة...شهوة القتل..
و ارانب في ايدي الصبي..لا تعرف غير الاستسلام لكونها وجبة شهية لاحقا..
ينسحب للوراء..إلى زاوية القفص الكبير...الذي ضاق عليه.. !!
دقائق مرت كأدهر..انفاس توقفت و انفاس تترقب..و الخوف واحد
ينبح الجزار صوته مناديًا الصبي و طالبًا منه جلب ارنب آخر....
انها اللحظة...التي لطالما فزع كلما تذكرها..فلا مفر..
اقبل الصبي مهرولاً، يحاول ان يفرغ شحنة الحماس التي تنبعث من عيناه و انفاسه المتسارعة...فهو يعشق شعوره المسيطر على ارانب ضعيف عاجزة..
كم هو مسكين..لم يكبر بعد...على عكس ما يرى...
كم احمق ان تزرع شرًا في صبي لم يبلُغ بعد ليفهم الفرق بين هذا و ذاك..!
و في هدوء فُتحت بوابات القفص الفسيح..لينسحب كل الارانب للزاوية الأبعد، و يبقى ارنب في الزاوية الأقرب ليد الصبي المحكوم..
فيغمض صديقي ارنب عينه ليودع العالم الأخضر و السماء الصافية و شمسها الساطعة..التي لطالما حلم بها..
يغني يائسًا أغنيته المفضلة...نفسي ف سما صافية..و شمس تعلى لفوق..حلمي مش بعيد..مهما استناه بشوق..لسه عندي أمل ف بكرا مهما يطول الليل..لسه بحلم بالفرح مهما يزيد الويل..
انها النهاية.......لحظة من فضلك!!
انها ليست كذلك..لن اكون وجبة!! لن اكون وجبة !!
و اخذت تلك الصرخات تنمو في عقل صديقي ارنب..حتى فتح عينه على ايدي الصبي تنهال عليه..
فقفز فأفلت..فلاحقته الايدي مسرعة..محاولة الانقضاض عليه، لكن لا أمل.
ثورة ارنب كانت عنيفة..اثارت رعب الارانب المشلولة في الزاوية الاخرى من القفص..
اخذ يقفز و يهرع من بُعد لأبعد..
يهرع ارنب بإتجاه البوابة..بإتجاه الصبي و يقفز مندفعًا للخارج مع انبطاح الصبي أرضًا..مفزوعًا من هذا الارانب الذي جن و اصابه داء الصرع..
انها ثورة...ثورة ناتجة عن كبت دهور و دهور..و لا مفر من الاستسلام امام الثائر، فهو في ذروة قوته..و إن فكرت أن تقاومه..فلن تبصر نورًا بعد اليوم..
فصل جديد يُكتب في تلك الحياة...بقلمك أنت..وحدك..
رسمتك ارنبًا و زرعت فيك الارادة..و غرست فيك أجنحة معنوية، لتطير بها عندما تتحرر من قيدك....فلتبقى حيًا..
الألوان امام صديقي ارنب إلى ما لا نهاية...فهو أخيرًا..حر.
يجري و يجري و يجري..يعطش فيتعب، و لكن لا مجال للعودة..او الاستسلام
اختفت الخضرة تدريجيًا، فأمسى يهرول وسط صحراء جرداء..
سادت العتمة...بدأ الخوف ينبش فيه انحاءه الهاذلة، غلبه التعب، اغمض عينه..
صوت ذئب يغطي على صمت الليل..يقترب أكثر فأكثر..
يقتل الخوف نعاسه، فتجره رجليه بسرعة الريح ليهرب و خلفه الذئب مباشرةً..
الظلام حالك..لا شيء مرئي غير عتمة لا نهائية....
اخذ يقفزو يرتفع..زاد ارتفاعه..ثم هبط على جسم..
انه الذئب...لقد ارتطم بصخرة كبرى مع اندفاعه الضوئي فمات..فحين الذي قفز ارنب فيه خوفًا..فنجا من الموت المحقق..بالحظ !
تنجو من موت إلى موت آخر...لعنة الهروب تطاردك.
استسلم ارنب لنومه الذي غلب عليه.....و حلم بأنه لُدغ من ثعبان سام لا نجاة من سمه المميت...فاستيقظ ليجد نفسه ينزف دمًا !
موت بطيء يتسلل، بقناعه المخيف..و عيناه الواسعتان الجاحظتان..
هناك ما هو اقوى من ارادتك، يسلب روحك و ينزعها بعنف من صدرك..فلتنم يا ولدي نومًا هنيئًا..نومًا ابديًا..
نوور، نور شديد...انها الجنة..ارانب كثيرة...في الجنة ؟!!
"هل تسطيع التكلم ايها الأرنب؟"
ما هذا انهم يتحدثون مثلي !!
"ايها الأرنب هل تسطيع الكلام؟"
"نعم استطيع التكلم..اين أنا؟ و من انتم؟"
"نحن قومك..أنت في أرض الصفوة..التي لا يصل إليها إلا العقلاء النبلاء..امثلك"
"و كيف وصلتكم ؟"
"كما وصلت أنت"
"لماذا سائر الأرانب في القفص لم تكن تتحدث؟"
"لأن الله لم يجعل لها رسالة تحققها"
"إذن فما هي رسالتنا؟"
"السلام..نشر السلام..التحليق إلى أعلى السماوات"
"التحليق؟!!..نحن ارانب لا جناحات لدينا فلا نطير"
ارانب !!! هناك ارانب سنأكل اليوم لحمًا دسمًا...و يظهر من حيث لا يدرون فلاحون..بكلابهم المسعورة...
"إذن فلتكن هي اللحظة...نحن لسنا بارانب بعد اليوم يا ارنب"
يتطاير شعر الارانب و يتبخر..و تتبخر الاذان الطويلة ايضًا، و يخرج منهم شعاع نور يضيء الأرض..فلا ليل بعد الآن...
و على ضوء الشروق الأزرق...تحلق الارانب عاليًا...اعتذر...تحلق النسور- الارانب سابقًا- عاليًا..إلى أعلى السماوات.
_____
عبدالرحمن هاني

جميلة حقا يا عبد الرحمن
رمز وتشويق جميل حقا

اسعدنى المرور
مودتى اخى

شكرا لك

أتمني لك المزيد من التألق و الجمال

شكرًا استاذي عماد عناني
شكرًا استاذة اسماء
شكرًا استاذ عادل عوض
شكرًا استاذ عاطف عبدالعزيز