فى الطريق الضيق الذى لا يتسع لأكثر من سيارتين صغيرتين تمران منه بمعاناة وخلاف بين السائقين ؛ تكمن ورشة الأسطى حسين السمكرى الذى عرف بمهارته حتى إن الناس يأتون إليه من أماكن بعيدة ؛ وها هو يعمل فى ظل ضوضاء ذلك الشارع الكائن بأحد الأحياء الشعبية العريقة التى يسكنها أخلاط من الناس ..
أصوات تختلط : ما بين عمال القهوة ودقات أدواته وبعض الباعة الجائلين بعربات وبغير عربات. وأطفال يلعبون بكرة صغيرة مطاطية ..تبدو عليهم السعادة رغم فقر حالهم وضعف أبدانهم ؛ وإذا بأحد الأطفال يصيح : ( شوط يا وائل شوط ) ويركل وائل الكرة فتطير حتى تصطدم بلمبة اللحام التى يستخدمها الأسطى حسين فيغضب بشدة ويترك اللمبة متوجها إلى ذلك الصبى الذى لا يتعدى من العمر سنواته الخمس وقد قرر أنه سيضربه حتى يمنعه من اللعب هنا مرة أخرى .. ولم يكن وائل مدركا أنه سيضرب فانتظر فى مكانه متصورا ً أن الأسطى حسين سيأتى إليه بالكرة ؛ وعندما جاءه حسين لمح فيه ضعفًا وهزالا مما أثار شفقته عليه فقرر ألا يضربه بل يذهب به إلى بيت أبيه فيشكوه لأمه فتمنعه هى من اللعب أمام الورشة
فسأله عن بيته فأشار الطفل إلى بيت قديم متهالك فى الحارة ؛ فأمسك حسين يده وتوجه به نحو ذلك البيت مسرع الخطا وهو يقول : ( أما نشوف أمك هتعمل إيه هى كمان )
دخلا مدخل البيت وأشار الصبى إلى غرفة فى دوره الأرضى وقال : ( أنا ساكن هنا) فتوجها معا وقد كان باب الغرفة مفتوحًا وألقى نظرة حريصة داخلها فوجد امرأة عجوزًا على أريكة من الطراز الأسيوطى القديم وقد فُرش أمامها حصير قديم ممزق
كانت العجوز تستمع إلى المذياع بصوته المرتفع فسألها حسين محاولا لفت انتباهها إليه : ( فين أبو الولد ده يا حاجة ؟ ) فلم تسمعه الحاجة ؛ فتوجه إليها الصبى ونبهها لوجود غريب فى الغرفة . فأغلقت المذياع فى بطء فنظرت إليه فى تكاسل وقالت : ( يسعد صباحك يابنى ) هكذا ردت لأنها لم تسمع سؤاله الذى جاء به متهددًا أبا الولد ففهم حسين ان سمعها ثقيل فكرر السؤال بصوت عالٍ فقالت العجوز فى هدوء : ( أبوه .. هىء هىء : رماهولى وطفش لما بنتى ماتت وسابنا من غير ما يسأل فينا .. أهو.. لينا رب ) فرق قلب حسين لذلك وسألها فى رفق : ( وبتصرفى منين يا حاجة ومين اللى بيخدمك ؟ ) فلم تسمع ؛ فكرر السؤال بصوت عالٍ وقد أعاد إفهام نفسه أنها ثقيلة السمع فردت عليه بصوتها المتهدج .. : ( يابنى أنا باخد معاش السادات خمسة وتمانين جنيه وكمان اهل الخير موجودين )
فقال حسين : المهم ( الولد ده مش عارف أشتغل منه ) فلم تفهم العجوز فحاول إفهامها بصوت مرتفع ولكنه هذه المرة أشفق عليها من الحوار الطويل .. وما عساه أن يظفر منها ليرضى غضبه على الصبى فى حين أن الرقة قد داعبت قلبه تجاههما معًا
وأراد أن يقدم لها شيئًا فسألها عن شىء تحتاجه منه فقالت ( معلش يا بنى افتح العلبة دى وخد منها جنيه ونص وهات لى شوية فول وعيش أصل الواد الملعون ده من الصبح بيلعب ومش راضى يجيب حاجة ) فقال لها : حاضر با أمى وتوجه إلى العلبة وفتحها فوجد فيها ورقة من فئة الجنيهات الخمسة وبعض الجنيهات المعدنية وأنصاقها فقرر أن يحضرلها إفطارا على حسابه الخاص ثم نظر للصبى قائلاً : تعالى معايا يا ... فرد الصبى فى خفة الصبيان : يا وائل اسمى وائل .... فخرجا معا متوجهين إلى عربة الفول الواقفة على ناصية الشارع الضيق واشترى لهما فطورًا فاخرًا من الفول والجرجير والسلاطة والعيش والمخلل وعاد إلى غرفة العجوز وفرد أصناف الطعام أمامها فشكرته وقالت : ( اقعد افطر معانا بقى ) فشكرها وانصرف وهو ينوى فى نفسه أن يمر عليها مرة اخرى ليلبى لها طلبًا آخر
تعجب حسين أن العجوز لم تعلق على كمية المشتروات بالمقارنة إلى المبلغ الذى سمحت به فكان ينتظر أن تتعجب وتشكره ثم يقول هو ( مفيش فرق يا حاجة أنتِ زى أمى ) ولكنها لم تقل وتوجهت للطعام مباشرة وتناولته بين أدرادها وخداها ينتفخان مع كل حركة من فكها الضعيف وخرج حسين متوجهًا إلى ورشته وقد شغله أمر تلك العجوز وحفيدها الذى لم يكمل سنوات عمره الأولى .. من يرعاهما ؟ ومن يأتى لهما بمتطلبات العيش ؟ ومن يقبض لها المعاش الضئيل ؟ ومن ينظف حجرتها البائسة ؟ وقال فى نفسه : سأساعد هذه المرأة من فترة إلى أخرى واستكمل عمله وانتهى يومه الشاق فتذكر العجوز والصغير وائل فقرر أن يذهب إليهما فربما يستطيع أن يلبى لهما طلبًا ما .. فتوجه إليهما وطرق الباب على استحياء وكان الباب مفتوحا فلمح بقايا طعام الإفطار ما زال موجودا على الكنبة والعجوز تسمع المذياع كعادتها وقد غلبها النوم أما وائل فلا أثر له فوقف متحيرا .. كيف يفعل فى تلك الحال وبينما هو كذلك إذا بوائل قد حضر من رحلة اللعب الطويلة فى الشارع وعلى وجهه تراب وأوساخ فقال حسين : ( أنت كنت فين يا وائل ؟ وستك نايمة كده ليه؟ ) فقال الصبى : ( هى دايما كده تنام وهى قاعدة أصلها لو نامت على ظهرها مبتعرفش تقوم تانى ودايما تنام وهى بتسمع الراديو ده وأنا مش بعرف أنام منها علشان كده بافضل ألعب لغاية ما هى تنام وبعدين أطفى الراديو وأنام جنبها ) فسأله حسين إذا كان قد تعشى أم لا فقال : لا . فقال حسين
طب إيه رأيك نتعشى سوا ) فرد الولد : ( ماشى ) فقال حسين : ( طب اغسل وشك وروق نفسك كده ) فتوجه وائل إلى الحمام وفتح بابه المتهالك فشم رائحة كريهة تنبعث منه فعلم أنه يفتقرللنظافة وما عسى هذه العجوز ان تفعل فى أمر التنظيف فقال فى نفسه : ( فى الصباح سأحضر عم جابر الكناس وأكلفه بتنظيف الحمام وأعطيه خمسة جنيهات ) ثم أخذ الصبى وتوجه به للخارج حيث توجد عربة من الصاج ينبعث منها دخان كثيف وطلب منه الأسطى حسين طلبين كفته بالسلطات فقال الولد : ( إيه ده هناكل كفتة ؟) فقال حسين : ( أيوه يا سيدى ) وبينما هما يأكلان قال حسين للبائع ( جهز لى كمان رغيفين كل رغيف باتنين جنيه ) وكان يقصد بذلك العجوز النائمة وانتهيا من الطعام وأوصل الولد إلى غرفة جدتة وأدخله واطمأن على نومه بجانب جدته وترك له الرغيفين وقال : ( لما تقوم ستك ابقى أكلها من ده وكل معاها )
ومرت ايام بعد ذلك ينشغل حسين فيها بعمله فتلك سيارة بها حادث شديد وتلك سيارة يذهب مع صاحبها ليشترى له بابًا أو شنطة أو كبوتًا من وكالة البلح ... وهكذا أخذته أعماله اليومية وبعد أسبوع تقريبًا سمع صوت طفل يناديه ( يا بتاع الكفتة ) فنظر إلى مصدر الصوت فإذا هو وائل فلا يدرى كيف أخذ الطفل قلبه هذه المرة وتعلق به وكذلك لام نفسه أنه نسى امر عم جابر الكناس الذى قرر أن يبعثه لينظف الحمام فى مسكن العجوز فحيا الصبى من بعيد وناداه وقد كان عم جابر الكناس فى الشارع يمارس مهنته كعادته فذهب إليه حسين ونقده الجنيهات الخمسة بعد خلاف معه وهو يقول له ( يا عم الحاج : ده هو جردل ميه مع شوية فنيك وتمسحه بالمقشة اللى معاك دى هو أنت هتعمل رِجل الكيكى ؟) وكان يتمنى فى نفسه أن يعرف ما هى رجل الكيكى ولكنه كلما قالها ضحك من نفسه دون أن يعرف لها معنى ثم نادى الصبى وقال له : ( خد عمك الحاج عندكم فى البيت وهو هيعمل اللازم ) وهكذا أحس أنه عمل عملا عظيما
وبدأت الزيارات تتكرر لمسكن العجوز وهو لا يدرى ما السر الذى يجذبه إلى تلك الغرفة حتى إنه بدأ يستعوض بها عن جلسة القهوة مع أصدقائه وتكررت هداياه المتمثلة فى بعض الأطعمة والأشربة وهو يستمتع بدعاء العجوز له كلما قضى لها شيئا من حاجاتها
وذات مرة سألها عن شأن التحاق وائل بالمدرسة ..؛ أجابته ( أبوه كان قال لى إنه هيدخل المدرسة السنة اللى جاية .. و أهو سابهولى ولا عارفة أعمل إيه ... مدرسة إيه بس يابنى ؟ ما تشغله معاك... فضحك حسين وقال : ( من عينيه يا حاجة ) وفى نفسه كان يقول : ( نفسى أدخل الواد ده المدرسة يبقى كده عملت اللى عليا وزيادة ... يمكن ربنا يسامحنا على العك اللى بنعكه )
وتوالت الأيام والزيارات والهدايا البسيطة التى لم تكن بسيطة فى نفس الصبى وقد استعوض حسين بهذه العجوز عن أسرته التى لفظته من زمن
وذات يوم كان حسين فى عمله يدق ويلحم فإذا بالصبى أمامه فى حالة مضطربة قائلا له ( يا عم حسين .. إلحق ستى عيانة و مبتردش عليا خالص ) فأصيب حسين بقلق شديد وأطفأ نار اللحام وتوجه مع الصبى مسرعا فوجد المرأة قد فارقت الحياة فغطاها وقال للصبى ( البقية فى حياتك .. ستك ماتت يا وائل ) فبكى الصبى بشدة وارتمى فى حضن حسين كأنما يستنجد به من زمنه الآتى وما فيه من ملمات لا يقدر الصبى على تحملها وحده فقال له حسين : ( متخافش يا وائل أنت من هنا ورايح ابنى أنا ) وضمه بشدة إلى صدره كأنما يريد أن يطمئنه بحنوه .
وقرر حسين ان يتكفل بالخارجة ويدفن المرأة فى مقابر الجمعية الخيرية التابعة للمسجد . فذهب ومعه الصبى إلى المسجد وقابل الشيخ وأخبره بالأمر فرحب الشيخ وأخبره أنه سيرسل المغسلة وأنه سيحضر بنفسه طبيب الوحدة الصحية ليصرح بالدفن وأمره أن يذهب هو للبيت ويجهز أوراقها وينتظره هناك . فرد حسين متسائلا عن تلك الأوراق فأجابه الشيخ بأنه يقصد البطاقة أو شهادة الميلاد أو أى إثبات للشخصية
فذهب حسين ليبحث فى صندوقها الخشبى الصغير عن أوراق تدل عليها وبينما هو يبحث حضرت المغسلة ومعها مساعدتان لها تبدو عليهما مخايل القوة الرحيمة فأشار حسين لهن بالدخول وقرر أن يؤجل موضوع الأوراق إلى حين انتهائهن من مهمتهن فطلبن منه وعاءً كبيرًا به ماء دافىء ؛ فأجاب حسين : حاضر
وبينما يفكر حسين بالأمر جاءت إحدى الجارات بالماء وبدأ النسوة عملهن وإذا بصيحة منفلتة تخرج من إحداهن : ( يا لهوى ؛ دى مسيحية ) فسمع حسين ذلك فاندهش بقوة وخرجت النسوة من عند العجوز المتوفاة وقالت إحداهن فى تعجب : ( إيه ده يابنى دى مسيحية ؛ فقاطعها حسين قائلا : مسيحية إزاى بس ؟ فقالت : شفت الصليب فى إديها وأنا بقلعها هدومها ) فقال حسين فى عجب : ( مسيحية إزاى بس ) ثم توجه إلى الصبى وسأله : يا وائل : هى ستك اسمها إيه ؟ ) فرد وائل : ( اسمها تريز ) فقال حسين فى حيرة : ( طب وإيه العمل دلوقتى ؟
فردت المرأة قائلة : ( يابنى أنا معرفش المسيحيين بيغسلوا إزاى لو أعرف كنت خدمتك فى الحكاية دى وانصرفت المرأة ومن معها وتوجه حسين مسرعًا إلى صندوقها الصغير فوجد فيه الكارت الذى تتسلم به معاش السادات فوجد اسمها فعلا (تريز عزيز عبد الملاك ) فملأته الحيرة وقال فى نفسه ( أعمل إيه بقى فى الورطة دى ؟ ) وبينما هو كذلك إذ حضر الشيخ ومعه الطبيب الذى كشف عليها وكتب التصريح وأمر حسين أن يذهب قبل فوات موعد العمل الرسمى ليختمه من مكتب الصحة ثم انصرف
قال حسين للشيخ : ( إيه العمل دلوقتى يا شيخ ؟ ) فرد الشيخ : ( العمل عما ربنا يابنى .. إحنا نروح الكنيسة اللى هناك دى ونقول لهم وهم يتصرفوا ) قال حسين ( تصدق يا شيخ كنت فاكرها مسلمة ) فقال الشيخ : ( يا بنى مسلمة أو مسيحية أهى ماتت وبين إيدين ربنا ... ربنا يرحم الجميع )
ثم خرج الشيخ وحسين و معهما وائل وتوجهوا إلى الكنيسة وطلبا مقابلة أحد المسئولين بها فلما قابلهم وأخبره الشيخ بالأمر شكر لهما الرجل جميل صنعهما وطلب تصريح الدفن ووعد أن يرسل هو من يستكمل الإجراءات وأنه سيرسل معهم من يتولى الأمر ... ثم سأل الرجل عن هذا الطفل هل هو ابنها ؟ فرد حسين : ( لأ حفيدها ) فقال الرجل : ( وأين أبوه ؟ ) فأحس حسين بحرص منه على الولد وخشى أن يضمه لدار الرعاية بالكنيسة فيحرم منه – وقد تعلق به قلبه – فقال حسين : ( أبوه مسافر فى شغلانة وراجع قريبا إن شاء الله والولد عندى لغاية أبوه ما ييجى ) فاطمأن الرجل لذلك ووافق عليه وقال : ( لو احتاج الولد حاجة ؛ إحنا تحت أمركم ) فقال حسين : ( طبعا طبعا .. ربنا يديم المعروف ) وحضر من سيتولى الأمر وذهب معهم وتم نقل الجثمان إلى الكنيسة ليقام القداس عليه ثم توجهوا بها إلى حيث تدفن وكانت هذه هى المرة الأولى التى يتبع فيها حسين جنازة مسيحية وكان يترحم عليها ويقرأ لها الفاتحة ثم عاد حسين بعدها لورشته ومعه وائل وقد أنهكهما اليوم الشاق فقرر أن يصعد إلى مسكنه ويلغى أعماله فى ذلك اليوم فصعدا إلى مسكنه البسيط وهو شقة متواضعة فوق الورشة لينام بعض الوقت ومعه الصبى الحزين الذى استسلم له كل الاستسلام وناما متجاورين على سرير متوسط الاتساع والغلام يسكت حينا وتعاوده نوبات البكاء حينا فيضمه حسين محاولا تهدئته قائلا : ( الله يرحمها ؛ متزعلش يا وائل أنا من النهاردة أبوك ) وبعد قليل يهدأ وائل ويستسلم للنوم فى حضن حسين
وبدأ الهذيان يدور فى رأس حسين وتذكر قولها : ( أبونا بيدفعلى أجرة الأوضة ) تصور وقتها أنها تقول (أبويا ) فضحك منها وقال فى نفسه : ( هو أنتِ لسه أبوك ِ عايش ؟ ) وتذكرها عندما كانت تهش الذباب من على وجهها بعد الأكل ؛ إنها لم تكن تهش الذباب إنها كانت ترسم الصليب على وجهها ولكنه لم يفهم لأن حركاتها كانت مهتزة مضطربة وبدأ يفكر فى أمر الصبى الذى تعلق به ولا يتصور أنه يستطيع ان يفارقه فهل يسلمه لدار الرعاية بالكنيسة لترعاه أم يبقيه معه ؟
وهل يعلمه الإسلام وصلاة المسلمين ويأخذه معه للمسجد يوم الجمعة ؟ وهل بذلك يكون قد نفعه ؟ أم يكون قد اختطفه من دينه الذى عليه أبوه وأمه ؟ أم يكتفى بتعليمه الصنعة التى سيتعيش منها ولا داعى لأمر الدين بالمرة ؟
أم يتبناه باعتباره طفلا لقيطا ويكون له ابنا ويدخله المدرسة ؟ أم يبحث عن أبيه ويرده إليه ؟ .... لا فأبوه ذاك لا يستحقه فقد تركه دون رحمة للجدة العجوز وفر من المسئولية ... لا لن أعيده لأحد سأربيه أنا .... لكن موضوع الدين ؟؟؟ أيعلمه الإسلام أم يخبره بأنه مسيحى أم يتركه حين يكبر ليختار ؟؟؟؟؟؟