السائرون فى الظل
عندما جلسنا فى الشرفة نحتسى الشاى عند العاشرة صباحاً تقريباً, كانت سحابة رمادية حبست آشعة الشمس, فغيمت الدنيا من حولنا, قد تزحزحت قليلاً, فتحررت آشعة الشمس وهامت نحونا بغزارة فأشرقت الدنيا من جديد, وتراجع مستطيل الظل العريض أمام اندفاع النور حتى اختفى تماماً إلا من ظلال الأبنية المحيطة, وانعكس شعاع من سطح الشاى الداكن على جبينه مداعباً عينه اليسرى فأزاح الكوب قليلاً إلى اليسار....
وعندما همّ بالتحدث إلىّ هرول صبى صغير خارج الورشة الموجودة أسفل الشرفة كأنه يحاول اللحاق بمستطيل الظل المنحسر وقد عقد ذراعيه خلف رأسه وأثنى ظهره واشتد صراخة, ثم خرج خلفه المعلم عنوان, كان ضخم الجثة كث الشعر, غليظ الصوت, ملأ الزيت والشحم بنطاله حتى تغير لونه تماماً, أما قميصه الأزرق فكان يسعى دائماً إلى غسله وتنظيفه باستمرار. خرج من الورشة ممسكاً بسبيكة معدنية بحجم كف يده, دفعها فى وجه الصبى الباكى صائحاً فى وجهه بكلمات لم أتبينها, كان الصبى ينظر إليه فى خوف ويتراجع بظهره إلى الخلف, ماسحاً بكم قميصه المتسخ المتهدل دموعه, وكلما تراجع شبراً اقترب منه المعلم عنوان متراً, وذراعه نافذة إلى السماء كالسارية المائلة يحمل فى قمتها السبيكة المثبتة بخمس أصابع, وفى هذه اللحظة خرج الحاج عبده من الكشك, مرتديا جلباباً أبيضاً مقلماً بينما كانت رأسه الصلعاء, إلا من بعض الشعر الرمادى الجانبى, تعكس بعض آشعة الشمس كالمرآة, وفى يده اليمنى جريدة دفعها صوب المعلم عنوان صائحاً فى وجهه بصوت ضعيف أخرجه بصعوبة:
- كف عن ضرب الولد حرام عليك...
- الولد كسر تلك القطعة, ثمنها خمسمائة جنيه.
- تقوم تموته ضرب!
- هل أكافئه؟!
- لا, لكن....
ثم لمح الحاج عبده شخصاً ما آت نحوه, وانهال المعلم عنوان بضرب الصبى الذى تكوم عند جدار المنزل المقابل وهوت السارية المائلة, وألقى الصبى بنفسه على الأرض مدافعاً عن نفسه بذراعيه المعقودتين خلف رأسه وأثارت قدماه العاريتان, المتسختان بالزيوت والشحوم, التراب, فارتفع التراب حتى وصل إلى سقف الشرفة فغطيت فنجان الشاى بالطبق الأبيض الصغير, وحجب عنّا المعلم عنوان جزء من جسد الصبى ولم أستطع أن أرى رأسه لكنى سمعت صراخه بوضوح, وأخذ صراخه يشتد:
- الحقنى ياعم عبده..
واعترض الحاج عبده طريق الرجل باسماً:
- أستاذ عطا, كيف حالك ( وأمسك بيده اليمنى وهزها برفق إلى أعلى وأسفل).
نظر الرجل إليه بشبه ابتسامة:
- إزيك ياحاج عبده؟
- الحقنى ياعم عبده والنبى....
- نحمد الله, ماذا فعلت فى موضوعنا؟
- موضوع إيه ؟
- هيموتنى ياعم عبده....
- الموضوع اللى كلمتك عنه الأسبوع الماضى.
- آه, والله أنا كلمت رشدى بيه وهو قال" هيشوف".
فتهدلت ملامح وجهه:
- هيشوف إزاى يعنى, دى زينب هى اللى بتصرف على البيت..
- والله أنا عملت اللى اقدر عليه.
- آه طبعا, كتر خيرك, إنت عملت اللى عليك وزيادة.
- الحقونى...
وأخذ يده وهزها برفق لأعلى وأسفل, ثم رحل الرجل, وعاد الحاج عبده إلى الكشك مطرقا, ثم أختفى عن أعيننا, بينما كان التراب مازال يثور من تحت أقدام الصبى, والمعلم عنوان ينهال عليه بكل ماأوتى من قوة.
ثم لمحت فتاة تسير فى أول الشارع ترتدى جونيللا سوداء قصيرة وفانلة بيضاء بينما كان شعرها البنى الكثيف يتدلى على صدرها النصف عارى, ورفعت حقيبتها البيضاء إلى وجهها القمحى اللامع وأسبلت جفنيها وحاولت الابتعاد عن التراب المعترض طريقها, بينما كان شابان غريبان, أحدهما طويل القامة نحيف, يرتدى قميص أسود وبنطال يكاد ينزلق من خصره حتى ظهرت ملابسه المنقطة, و الآخر بدينا له كرش ملحوظ, يرتدى قميص أحمر, وبنطال لايختلف عن الآخر, كانا يتبعانها يلقيان بين الحين والآخر نحوها بكلمات لم تلتقطها أذناى, وأحيانا يهمس أحدهما للآخر فيضحك هذا الآخر ويعود أحدهما ليلقى بكلمات أخرى...
وعندما لمحها المعلم عنوان توقف عن ضرب الصبى, واعتدلت قامته, فرأيت جانب وجهه العريض وقد تحول لونه البنى إلى رمادى, وتسارعت أنفاسه, وأخذ يمسح جبهته المتعرقة بكم قميصة المشدود إلى معصمه. راقبها بنظراته, بينما ظل الصبى منكفئ على الأرض يبكى, يلملم دموعه الهاوية, محاولا سحب السوائل المنزلقة من أنفه بين الحين والآخر, يتحسس جروحه المتفرقة فيتأوه ويزداد بكاءه, وكفّ التراب عن هياجه. وحين أتمت رأس المعلم عنوان مائة وثمانين درجة كاملة, سمعت تنهيدة صديقى, فانتبهت له وسألته:
- هل كنت تريد أن تقول شيئا ؟
- نعم, لماذا غبت عن العمل بالأمس ؟
فابتسمت له, وتناولت كوب الشاى الذى أصبح باردا ورفعت عنه الطبق الأبيض وأخذت رشفة, وعادت السحابة الرمادية تغيم على الجميع....