إيلـيا أبى ماضـى - شاعر الطلاسم

تحدثنا فى الحلقة السابقة عن مدرسة المهجر الشعرية وكيف تكونت وألقينا الضؤ على الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية وسنحاول من اليوم أن نعرف ببعض رموز تلك المدرسة التى كان لها أثر كبير فى الحياة الشعرية والأدبية وسنبدأ بواحد من أهم أعلامها وهو الشاعر الكبير الراحل إيليا أبى ماضى

مولده ونشأته

*** ولد إيليا ضاهر أبو ماضي فى قرية المحيدثة فى جبل لبنان عام 1890لعائلة بسيطة الحال تعانى قلة المورد وضيق العيش لذلك لم يتمكن من استكمال دراسته بالمدرسة الهاجعة فى قريته سوى بعض دروس المرحلة الابتدائية البسيطة

** إلا أن سؤ الحياة الاقتصادية دفعته لترك المدرسة الابتدائية والرحيل مع عمه الى مصر فى عام 1902 طلبا للقمة العيش بعدما ضاقت به فى موطنه لبنان
وبالفعل وصل الى مدينة الاسكندرية (( بداية لرحلة جديدة فى حياته يقول عنها :
(وفي الإسكندرية تعاطيت بيع السجاير في النهار في متجر عمي ، وفي الليل كنت أدرس النحو و الصرف تارة على نفسي ، وتارة في بعض الكتاتيب)

** وكان عمه يعمل فى تجارة التبغ واستمر يعمل مع عمه فى تلك التجارة إلى أن
تعرف على أنطون الجميل وكان أديبا معروفا فى مصر فى ذلك الوقت حيث تمكن مع أمين تقى الدين من إنشاء مجلة أدبية هى (مجلة الزهور) وتقرب أنطون الجميل إلى إيليا ابى ماضى معجبا بعصاميته وقوة شخصيته وغرامه الكبير بعالم الشعر والأدب الى أن دعاه لأن ينشر بعض أعماله الشعرية بالمجلة

** وتعددت أشعاره المنشورة وبدأ يذيع صيته فى مصر من توالى قصائده مما دفع المطبعة المصرية الى أن تنشر له ديوانه الأول فى عام 1911 بعنوان (تذكار الماضى ) وكان يبلغ فى ذلك الوقت إثنين وعشرين عاما

** إلا أن حنينه لوطنه الأول لبنان والظروف الصعبة التى يعيشها أبناء وطنه هناك كان يدفعه دائما الى الكتابة فى الموضوعات السياسية والوطنية والتى لم تعجب السلطات فى مصر آنذاك فلم يسلم من مطاردتها بين الحين والحين فلم يتمكن من الصمود طويلا , ودفعته تلك الظروف الجديدة الى مواصلة الهجرة الى أمريكا الشمالية وبالأخص الولايات المتحدة والتى كانت تجذب الآلاف من بنى وطنه فى ذلك الوقت وذلك فى عام 1912

** واستقر فى بادىء الأمر بمدينة (سنسناتى) بولاية (أوهايو) حيث أقام فيها 4 سنوات عمل فيها بالتجارة مع أخيه (البكر مراد) وكانت فترة خصبة بالنسبة له حيث شهدت غزارة فى انتاجه الادبى والشعرى هناك

** وفى عام 1916يعاود شاعرنا الرحيل إلى نيويورك حيث حياة رحبة للثقافة والصحافة والأدب
وفى (بروكلين) تعرف على (ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران) وكانا فى ذلك الوقت يسعيان الى تأسيس الرابطة القلمية التى أشرنا إليها فى الحلقة السابقة , فشارك معهما شاعرنا فى وضع الدستور لخاص بالحركة وأصبح واحدا من مؤسسيها

** وشهدت تلك الفترة مشاركته فى تأسيس والإشراف على العديد من المجلات الأدبية مثل المجلة العربية - ومجلة مرآة الغرب لصاحبها نجيب دياب وكان ذلك عام 1918

** وفى عام 1929 أنشأ مجلة ( السمير ) والتى حولها الى مجلة يومية عام 1936وكانت هذه المجلة بالذات مصدرا هاما لأدب إيليا أبى ماضى كما أصبحت عاملا هاما من عوامل نشـر أدب المهجــر حيث نشر فيها معظم أدباء المهجر وخاصة أعلام المهجر الشمالى معظم انتاجهم الشعرى والنثرى

عوامل أثرت فى تشكيل وجدان ايليا ابى ماضى الشعرى

1) كانت الطبيعة اللبنانية والتى أحاطته وهو طفل صغير والتى احتضنت قريته الصغيرة (المحيدثة) القابعة فى حضن جبل لبنان والخضرة التى تزينها من كل مكان وماحولها من جداول وأشجار عاملا مهما فى إثراء تجربته الشعرية فقد فتِّحت ذهنه بسرعة للشعور بمعانى الجمال الكامن فى تلك الآيات الرائعة

2) الظروف الاجتماعية السيئة وحالة الفقر وقسوته الذى ألم بالعالم العربى قاطبة نتيجة الظلم الاجتماعى الناتج عن الحكم العثمانى جعلت منه رسولاً للفقراء، فكتب دوماً عن معنى المساواة الاجتماعية

3) الهجرة والاغتراب عن وطنه كان له الأثر الكبير فى إحساسه فأغزر في الشوق إليه والعناية بطيفه الباق في قلبه

4) الاختلاط بالنخب، ففي المهجر، كان أبي ماضي منغمساً في علاقته برواد النهضة العربية وقادة الفكر التحرري الأدبي، فاستفاد منهم، وبنى منهجه وأسلوبه على أفكارهم الأدبية

** تحولات فى عالم ايليا ابى ماضى الشعرية **

ــ بدأ إيليا أبى ماضى حياته الشعرية محافظا على نهج المدرسة الكلاسيكية القديمة ومحافظا على عمودية القصيدة واتخذ من أحمد شوقى ومحمود سامى البارودى وحافظ ابراهيم نماذج هامة لأسلوبه الشعرى
ــ إلا ان هذه التجربة لم تستمر طويلا فى شعره فقد تخطاها متأثرا بجماعة الرابطة القلمية التى ساهم فى تأسيسها وغلب عليه التأثر كثيرا (بجبران خليل جبران) والذى دعا إلى عدم الإفراط فى القصيدة الكلاسيكية القديمة وضرورة التجديد فى الشعر العربى

** أسلوب إيليا فى الشعر العربى **

ـ ـ النزعة الفلسفية :

من اهم السمات التى نلحظها فى شعر إيليا أبى ماضى جنوحه الى النزعة الفلسفية فى أشعاره المتمثلة فى رؤيته للموت والحياة والوجود والعدم والسياسة والمجتمع , إنه يؤمن دائما أن الانسان مخلدا وحتى بعد مماته فان آثاره باقية دائما تتحدث عنه وأن الموت ليس هو آخر المنتهى بل هو مرحلة جديدة من مراحل البقاء
وتظهر تلك النزعة الفلسفية واضحة جلية فى قصيدته الطلاسم حيث يقول في أحد مقاطعها :

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنّني أدري ولكن...
لست أدري!

ـ ـ النظرة التأملية :

كان إيليا أبى ماضى يميل دائما الى التأمل والتفرد والوحدة التى يجد فى صمتها مجالاخصبا فى استكشاف حقيقة الوجود وما يزخر به من أفكار ويتخذ من مظاهر الطبيعة مؤنسا له فى وحدته ويناجى أطيافها ويحول اللامحسوس منها الى صور مادية متحركة أمامه

يقول فى قصيدته فلسفة الحياة متأملا :

أيّهذا الشّاكي وما بك داء
كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إن شرّ الجناة في الأرض نفس
تتوقّى، قبل الرّحيل، الرّحيلا
وترى الشّوك في الورود، وتعمى
أن ترى فوقها النّدى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا

ـ ـ إحساسه بالجمال :

كان إيليا أبى ماضى يشعر دائما أن كل شىء من حوله جميل وشعورالإنسان بالجمال ينتج من تفاعل داخلى بنفسه مع رموز البهجة التى يراها من حوله فالجمال يُخلق داخل الانسان عند مولده ويظل كامنا بداخله ولا يتحرك إلا إذا تفاعل مع جمال خارجى محيط بالبيئة التى يعيش فيها ومن حولها فرؤيته للزهور والقمروصوت المطر هو رموز تحرك الجمال بداخله وتجعله يرى الوجود جميلا

ـ ـ الميل الى الأقصوصة الرمزية "

لم يقتصر شعر إيليا على التأمل فقط، لكنه برع براعة خاصة فيما يسمى بشعرالأقصوصة الرمزية، وهي التي لم تكن ذاعت في الأدب العربي قبله
وفي قصيدة له بعنوان ( الشاعر) يحكي لنا إيليا حكاية فتاة سألته أن يحدّثها عن الشاعروصفاته،
وتمضي القصيدة ليدلل لنا إيليا أن وصف الشاعر من أصعب الأمور
فيقول فى وصف الشاعر أو يتحدث عن نفسه قائلا :

يا هذه إنّي عييتُ بوصفه
وعجزت عن إدراك مكنوناته
لا تستطيع الخمر سرد صِفَاتِِها
والروض وصف زهوره ونباته
هو من نراه سائرا فوق الثرى
وكأنّ فوق فؤاده خطواته
إن ناح فالأرواح في عبراته
وإذا شذا فالحبّ في نغماته
يبكي مع النائي على أوطانه
ويشارك المحزون في عَبَراتِه
وتُغيّر الأيام قلب فتاته
ويظلّ ذا كَلَف بقلب فتاتِه
هو من يعيش لغيره و يظنّه
من ليس يفهمه يعيشُ لذاته!!!

ـ ـ التعلق بالوطن :

شأنه شأن كل شعراء المهجر كان الحنين الى الوطن هو الطيف المسافر دائما بداخله فلم تخْـلُ دواوينه من التحدث عن وطنه وذكرياته وشوقه إليه

ينشد فى وطنه لبنان قائلا:

لُبنانُ والأمــلُ الذي لذويــهِ
والشِّعرُ قال بنيتُ عرشــي فيهِ
وتحبُّهُ والثلجُ فــي واديـــهِ
بقــلائد العقيان تستغويـــهِ
بالأنجم الزهـــراءِ تسترضيهِ
حتـــى أعودَ إليه أرضَ التيهِ
اثنـــان أعيا الدهرَ أن يُبليهما
سألوا الجمـالَ فقال هذا هيكلي
تشتاقُهُ والصــيفُ فوق هضابه
وإذا تمدُّ له ذُكــاء حبالــها
وإذا تُنَقِّطُهُ السمـــاءُ عشيـةً
وطني ستبقى الأرضُ عندي كلها

وبقدر حبه لوطنه الأول لبنان إلا أنه لم ينس وطنه الثانى مصر والذى شهد فترة خصبة من حياته الشعرية وبه نشر أول ديوان شعرى له فأنشد فيه يقول :

بروحــي وما ملكته يدي
ويمشي الفناءُ إلـى الجلمدِ
فكم بي في الناس من مُقتدِ
أيا مصــرُ أفديك بالأنفسين
أحبك حتى تجف البحـــار
وما أنا وحدي المحبُ الأمينُ

** آثاره وأعماله **

ترك إيليا أبى ماضى مجموعة من الدواوين والأعمال الأدبية لعل من أهمها :.

-- تذكار الماضي : (الاسكندرية 1911)

تناول موضوعات مختلفة أبرزها الظلم، حيث عرض فيه الشعور بالظلم الذي يمارسه الحاكم على المحكوم، مهاجماً الطغيان العثماني ضد بلاده

-- إيليا أبى ماضى : ( نيو يورك 1918)

كتب مقدمته جبران خليل جبران، جمع فيه إيليا الحب، والتأمل والفلسفة،وموضوعات اجتماعية وقضايا وطنية كل ذلك في إ طار رومانسي حالم أحياناً وثائرا عنيفا أحيانا أخرى

-- الجداول : ( نيويورك 1927 ) كتب مقدمته ميخائيل نعيمة

-- الخمائل ( نيويورك 1940)

من أكثر دواوين أبي ماضي شهرةً ونجاحاً، فيه اكتمل نضج إيليا أدبياً، وظهر جليا أسلوبه الشعرى وخاصة أسلوبه المتفرد فى إستخدام التضاد والمتناقضات ففيه الجسد والروح، والثورةوطلب السلام، والاعتراف بالواقع ورسم الخيال

بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الأعمال مثل :

-- تبر وتراب

-- الغابة المفقودة

-- قصص الأغرش وامرأته الهبلة

مغامرات خالد سعيد مع الحياه

هذا هو إيليا أبى ماضى واحد من أهم شعراء المهجر الذى أثرى الحياة الشعرية والأدبية بالعديد من الأعمال التى تزخر بها المكتبة العربية والذى رحل عن دنيانا فى 13 نوفمبرعام 1957 أثر نوبة قلبية مفاجئة أوقفت قلبه عن الرنين ولكنها لم توقف أشعاره التى لم تزل تسرى فى عروق الشعر العربى الأصيل

أتمنى أن أكون قد وفقت فى القاء نظرة مبسطة عن حياته وأسلوبه الشعرى

وأترككم الآن مع واحدة من أشهر قصائده التى مازالت ترن أسماعها فى عقول وقلوب محبى الفن والشعر العربى الأصيل قصيدة الطلاسم

الطلاسم
إيليا أبى ماضى
------------------
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
***
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني ادري ولكن
لست أدري!
***
أتراني قبلما أصبحتُ إنسانا سويا
أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيئا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري!
***
قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر مِنكا
هل صحيح مارواه بعضهم عنِّي وعنكا
أم ترى مازعموا زورا وبهتانا وإفكا
ضحِكَتْ أمواجُه مني وقالت
لست أدري
أيها البحر أتدري كم مضت ألفٌ عليكا
وهل الشاطيء يدري أنه جاث لديكا
وهل الأنهارُ تدري أنها منك إليكا
ماالذي الأمواج قالت حين ثارت
لست أدري!
***
كم فتاةٍ مثل ليلى وفتىً كابن الملوّحْ
أنفقا الساعات في الشاطيء، تشكو وهو يشرحْ
كلّما حدَّثتَ أصغتْ وإذا قالت ترنّح
أحفيف الموج سر ضيعاه؟
لست أدري
***
إن في صدري يا بحرُ لأسراراً عجابا
نزل السِّتر عليها وأنا كُنت الحِجابا
ولِذا أزدادُ بُعداً كلّما ازددتُ اقترابا
وأُراني كلمّا أوشكت أدري
لست أدري!
***
فيك مثلي أيها الجبّارُ أصداف ورملُ
إنّما أنت بلا ظلِّ ولي في الأرض ظلُ
إنما أنت بلا عقل ولي يا بحرُ عقلُ
فلماذا يا ترى أمضي وتبقى؟
لست أدري!

مع خالص تحياتى
محمد عثمان