قراءة في معجم الفؤاد (القياس الكمى للحالة الوجدانية)

قراءات في معجم الفؤاد
( القياس الكمي للحالة الوجدانية )

خالد جوده أحمد

هل يمكن أن تتنقل العلوم الإنسانية إلى زاوية القياس المادي، بمعني أن المشكلة الكائنة عندما نتحدث عن المعاني والمشاعر وقضايا الروح أنه يصعب بحال من الأحوال تناولها من منظور كمي، ولا يخفي أهمية الأمر والذي شغل أفئدة الفلاسفة والأدباء على مر العصور خصوصا ولما يشكله هذا القياس (علي المستوى الكمى والمعنوى) من استيعاب الدراسة في النفس الإنسانية ودخولا إلى أعماقا كثيفة من خواطر الإنسان وهواجسه
وفي هذا المقال نحاول سويا نقل حالة المزاج الوجداني والمشاعر الذاتية إلى منضدة التحليل العلمي، لنقوم سويا بإخضاعه للقياس الكمي باعتماد معيارا وجدانيا قابلا للقياس، ولنا إذن هنا أن نتناول كلمة عن النسبية، يقول د . محمد صابر في كتابه "مغامرات عقل": "حقا أننا نعيش في عالم ذي أبعاد أربعة طول، عرض، عمق، زمن، ونظرية النسبية تقول لنا أن كل شئ نسبي في هذا الكون والحقيقة المطلقة لا يعلمها إلا الله – سبحانه وتعالي – القادر علي أن يري الحقيقة المطلقة لكونه من أقصاه إلى أقصاه .. ومهما عرفنا من أسرار الكون فما زال هناك الكثير الذي علينا أن ننجزه"، ولعل شاعرنا (أبو العتاهية) وصل إلى النسبية في قوله الشعري الجميل:
"من لك بالمحض وليس محض / يخبث بعض ويطيب بعض"
صحيح أن هناك اختلافا في قياس حالة النفس عن قياس المادة، فإذا كان المال يمكن قياسه بوحدات النقد المتداولة، وقياس الفكر بمعيار "الإنتاج العقلي" .... وهكذا، فإنه يمكن لنا أيضا قياس الحالة الشعورية باستخدام معيارا وجدانيا معتبرا له جانبه الكمي وهو "معيار المحبة" وهو بالطبع ليس معيارا ماديا محضا، وهذا الكلام يحتاج إلي تفصيل :
بين النفس والمادة بون شاسع، ورغم ذلك قد نري المادة بعيون قلوبنا، مثلا المال الكثير في عين الرجل الجشع قليل، والمال الحلال القليل في عين الرجل القنوع كثير طالما يكفيه، وهكذا يمكن لنا ضرب الكثير جدا من الأمثلة في حياتنا لنوضح التباين بين المعيارين، لكن من جهة أخري فإن القياس الكمي ينتقل نحو أفاقا أخري قد تزيد أو تنقص عن جانبها المادي، وللتوضيح نقول وبالله التوفيق معيار الحالة الوجدانية أكثر شمولا وأرحب وأجمل وأقدر عن الإيضاح والإبانة من القياس المادي المحكوم بالنظرة القاصرة، بحيث يكون المعيار الوجداني متعدد الأوجه، والحالات العملية الآتية كاشفة:

• الساعات النفسية (وجه من وجوه المعيار الوجداني):
بمعني أن تلك الساعة إنما هي قياسا للحالة الوجدانية في إحدى جوانبها، ففي أحيانا كثيرة نشعر بأن عقارب الساعة حرابا مسمومة مغروسة غرسا في أعصابنا لكآبة النفس وملالتها ، وأحيانا أخري نشعر وكان عقارب الساعة إنما هي بيارق لفرسان النصر لسعادة النفس وطيب أملها ، وتفسير ذلك ، انه في الحالة الأولي نشعر بالوقت ثقيلا بطيئا إن كانت صدورنا مثقلة بالهموم والأسى ، حتى كأن الثواني أحجار شديدة الوطئة علي القلب ، وفي الحالة الثانية نشعر بالوقت مطمئنا يسيرا سهلا مباركا فيه يمر سريعا إذا كانت حالتنا النفسية جيدة ، وهذا بالتأكيد ينطبق تماما عندما نستثمر أوقاتنا في نشاط نافع لنا وللآخرين وفيه نية صالحة ، وهذا المعني موجودا في النظرية النسبية والتي عبر عنها منشئها ( إينشتاين ) بقوله : " إذا جلس المرء مع إنسان يحبه لمدة ساعة فإنها ستبدو له دقيقة واحدة ولكن إذا جلس فوق موقد ساخن لمدة دقيقة واحدة فإنها ستكون أطول من ساعة " وعلل ذلك بالنسبية .. ويعني بذلك أن الزمان ليس مطلقا بل هو نسبيا يتوقف علي انعكاس حالة الإنسان الشعورية على الوقت .. فالوقت السعيد يمر كالبرق الخاطف ويراوح على الأنفس كالنسيم العليل ، والوقت الشاق يمر كئيبا طويلا ، بالتالي القياس الكمي يكون هكذا قضيت اليوم خمسون ساعة وجدانية سيئة ، وعشر دقائق وجدانية سعيدة.

المسافات النفسية ( وجه من وجوه المعيار الوجداني ) :
وننتقل الآن إلي قياس آخر لجانب المكان من وجهة نظر الوجدان ومشاعر النفس ، في عيون الأخبار لابن قتيبه 3/ 12 ، قال اليزيدي : ( رأيت الخليل بن احمد ، فوجدته قاعدا علي طنفسة ، فأوسع لي فكرهت التضييق عليه ، فقال : " إنه لا يضيق سم الخياط علي متحابين ولا تسع الدنيا متباغضين")، سبحان الله .. سم الخياط لا يضيق مع الحب ، والدنيا جميعها ضيقة مع البغض ، بمعني أنك لا تذهب في زيارة إلي زميل أو قريب يقع في نفس منطقة سكنك ، وتفضل الذهاب لصديق لك يبعد عنك مسافات بعيدة ، بل ولا تستشعر بذلك أي تعب ، وزيادة قد تجد المتعة في ذلك ، وتفسير ذلك انك في الحالة الأولي أن المسافة النفسية بينك وبين الآخر شاسعة بعيدة ولو التصق الداران ، وفي الحالة الثانية المسافة النفسية بينك وبين من تحبه قريبة سهلة ، وقد وصف هذا المعني فأحسن الوصف ( أبو تمام ) بما لا يترك مكانا لزيادة فقال :
" رب نائي المغاني روحه أبدا / لصيق روحي ودان ليس بالداني "
أما العباس بن أحنف فقال شعرا رائعا حول المسافات النفسية :
" وقد زعموا أن المحب إذا دنا/ يمل وأن النأي يشفي من الوجد / بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
علي أن قرب الدار خير من البعد / علي أن قرب الدار ليس بنافع / إذا كان من تهواه ليس بذي ود "
كان الله في عونك شاعرنا الجميل ، فقرب الدار لا يفيد إذا أقام من تهواه متاريس وعوائق صعبه في طريقك النفسي إلي دياره الوجدانية .
ومن هنا أعلمكم انه يجب أن تعلموا مسافاتكم النفسية من الآخرين ، فهذا تفصلنا عنه سنتميترات نفسية ، وآخر يبعد عنا آلاف الكيلومترات النفسية ولو كان في إنسان أعيننا بجسده المادي .

• المعيار الوجداني في الأمثال الشعبية :
وقد عبرت الأمثال الشعبية تعبيرا جميلا عن المعيار الوجداني بجانبه النفسي فقالت : " الرجل تدب مطرح ما تحب " ، شيء ما يجي علي القلب عنايته صعب " ، " حبيبك اللي تحب ولو كان دب " .

• المجهر الوجداني :
وننتقل إلي جانبا جديدا من المعيار الوجداني ، وهو هنا يتصل بأداة للقياس ، ففي مشاعر المحب لمحبوبه مجهرا نفسيا ، وتلسكوبا من الوجد والأشواق ، يري بها الخصال المحبوبة بالتضخيم ، وعلي النقيض لا يكاد يبصر عيوبه ونقائصه ، وهكذا في ميزان الشخص الذي نلتقي به ونعامله فنقيم صفاته بقسميها الحسن والقبيح باستخدام مجهرا نفسيا خاصا ، فإذا أحببنا شخصا مال الميزان النفسي تجاه الخصال الحسنة ، فنراها مزايا نادرة المثال ، وإذا حدث العكس مال الميزان النفسي تجاه العيوب فنراها عيوبا خطيرة ، وجرائم لا تغتفر ، لذلك يجب علينا تصحيح قول القائل : " مرآة الحب عمياء " ، فأي عمي في رؤية الحسن وتزيينه ، إنما الحب رؤية رقيقة تعكسها مشاعرنا الخاصة المحبة ، وليس في هذا نقصا ، إنما مرآة البعض هي العمياء ، لأنها تلحد الحسن في لحد الجهامة وقتامة القلوب ، وما لنا لا نغضي الطرف عن العيوب ، ولا يخلو إنسانا من العيوب ، وما سلم منها أحد إلا الرسل الكرام ( عليهم الصلاة والسلام ) ، حتى قال القائل : " كفي بالمرء نبلا أن تعد معايبه " ، وقال الشاعر :
" ولست بمسبق أخ لا تلمه/ علي شعث أي الرجال المهذب "
وأصحاب ترويج مذهب " مرآة الحب عمياء " إنما أرادوا إظهار الفساد وإخفاء الجميل ، وما يجر ذلك من التنافر ومرارة الحياة .
إنما سر الحب الفريد من ذلك المجهر النفسي العجيب ، وفيه حكمة الحياة وتشكيل نفسية الجمال ، وقد لخص الشاعر نظرية المجهر الوجداني بقوله :
" عين الرضا عن كل عيب كليلة / وعين السخط تبدي المساويا "
فلنري بعين المودة إحساس المحب لمحبوبه ، فكأنه جميع الناس عنده ، فرضاه سعادة القلب، ومجافاته أرق الروح ، وهذا جميعه يغلفه شطر من الشعر ( إن المحب لمن يحب مطيع ) ، لتكون عين المحبة المبصرة ، قال الشاعر حول هذا المعني :
" ليس علي الله بمستنكر / أن يجمع العالم في واحد "
سبحان الله ، واحدا فقط ! ، بلي ، إذا كانت تربطنا به وجدانيات وأفكار مشتركة ، ومشاعر مستقرة متحدة تتجه إلي بناء الحياة بالأفعال الجميلة ، إنني نري أحبابنا بمجهرنا النفسي الخاص ، نراهم بعين الصفاء والجمال ، فليس عجيبا أن يتحد العالم في شخص واحد .

• خاتمة :
وليس يخفي أيضا أهمية ذاك القياس عند المقارنة والاستدلال بالمنهج العلمي لدي التقييم والاحتجاج في قضية ثقافية أو فكرية تناولنا هنا وجهين فقط من معيار الحالة الوجدانية وأداة واحدة وهما الزمان والمكان والتلسكوب الوجداني ، كأمثلة عملية ولما تمثله من أهمية كبيرة في حياتنا وقربا لها لادركنا إياها بجلاء في الممارسات الحياتية اليومية ، ولكن هناك أوجه أخري كثيرة كالتأمل والرضي والانشراح ، وسرعة التأثر ومخزون حسن الظن ، وعلي العموم فهي مقاييس كمية صالحة للاستخدام في الزمان والمكان ، فالكيان الإنساني يتشكل طبقا لهذه المقاييس ، فعليك بالمراجعة ،

وأدام الله بيننا المحبة ، وقارب مسافاتنا النفسية ، وجعل ساعاتنا دقائق من الود والسعادة ، ومتعنا بتلسكوبا وجدانيا صافيا



[center][justify]

شكرا لك أيها الرائع
كتبت فأبدعت

السادة الكرام الأستاذة بلقيس،والإدارة الكريمة
السلام عليكم
يتمتع السادة أعضاء الملتقي والإدارة بلياقة كبيرة وحسن تعامل مع أعضاء المنتدي
شكرا جزيلا لكم وشرفت بكوني بينكم
وتفضلوا بقبول خالص التقدير