كنت حينها فى السادسة, طفلا أتذوق طعم الأمل الذى يتجلى فى براءة الطفولة, أنهى دروسى المدرسية, وأعود إلى البيت فأجد الغداء فى انتظارى, تقوم أمى عليه. ماأكاد أنهيه وأفتح التلفاز لأسمع باباى أو ميكى ماوس, أو غيرها من مسلسلات الاطفال, التى أزهو بها كل الزهو وتنتشينى بنشوة الطفولة بكامل برائتها. حتى تقف أمى وتعجل من أمرى فبعد دقائق ميعاد درس القرآن عند الشيخ رمضان, فأصطنع عدم الاهتمام. فلاشئ عندى أهم من باباى وميكى ماوس. فرجعت من المطبخ ووجدتنى مازلت منتشيا ومتناسيا الدرس, فعنفتنى وأغلقت التلفاز وأعطتنى المصحف وفتحت الباب وأزلفتنى نحوه, وقالت:"عايزاك تبقى شاطر النهارده وتسمَع كويس", وابتسامتها لاتقل نشوتها عن نشوة باباى. خرجت وأنا سعيد على كل حال, وذهبت أعدو عدو الاطفال وأنا أغنى أغانى باباى حينا, وحينا أراجع سورة الكافرون, التى اعتقدت حينها أنها أصعب شئ يمكن حفظه.
ووصلت عند الشيخ, والمكان يعج بالأطفال, وبالحناجر الوليدة التى تشبه فى وقعها وقع زقزقة العصافير, ووجدت زميلا لى يقول فى صوت خافت:" ماأخرك, الشيخ سأل عليك. وهيزعقلك". فخفت فى نفسى أن يعنفنى أمام زملائى أو يضربنى, ففتحت المصحف وافتعلت الحفظ والمراجعة, حتى إن وقع نظره على فينسى تأخيرى, ووقع نظره على ولكنه لم ينس تأخيرى.
نظر إلى بجدية ونادى على:" تعالى ياللى جاى متأخر", فآثرت الذهاب حتى لاأزيد الطين بله.
فذهبت إليه فى بطء وأنا مطرق الرأس, ووصلت ووقفت أمامه أنتظر العقاب.
لكنه سألنى سؤال لم أتوقع أن يسأله إلا بعد عذاب أليم:" حفظت ياسى محمد"
فرفعت رأسى نازحا عن صدرى الصغير هما ثقيلا, وقلت "آه ياشيخ, حفظت"
-"سمعنى..."
-"
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). صدق الله العظيم
فقال وهو مزهوا بى, وكأننى لم أتأخر:" بارك الله فيك يامحمد يابنى"
فابتسمت وحمدت الله.
وأقرأنى سورة جديدة ,وأعادها على مسمعى وأعدتها عليه, ورجعت إلى مكانى, فأتلوها. وفى وسط هذه المعمعة والملحمة القرآنية, استوقفنا الشيخ, ليستعير انتباهنا:" صدق الله العظيم. اسمعوا ياأولاد, بعد أسبوع بإذن الله سنختار أفضل خمس حافظين ومرتلين للاستعداد للمسابقة السنوية التى تنظمها المديرية. أمامكم أسبوع حتى تظهروا كفائتكم وتفوقكم, ومن يحفظ أفضل سأختاره للمسابقة, ولو فاز فإن له جوائز قيمة"
فرحنا بهذا الخبر وظن كل واحد منا أنه هو أحد هؤلاء الخمسة المختارين, وقد ذهب فينا من ذهب إلى أنه الفائز بتلك الجوائز القيمة.
وبعد ساعة من يومنا القرآنى انتهينا من حصة اليوم حيث أعلن الشيخ: "انصراف"
وماسمعنا هذه الجملة حتى هببنا إلى الخارج كالعصافير السعيدة . وقبل خروجى استدعانى الشيخ وقال لى: "احفظ جيد هذا الأسبوع, حتى لا أغير رأيي, فقد اخترتك لتكون أحد الخمس متسابقين". ففرحت كثيرا لهذا الخبر وابتسم لى الشيخ وقال:" ورينا شطارتك, اتفضل..."
فخرجت من عنده أعدو فرحانا وأنا أتخيل ذلك اليوم الذى قد أفوز به بتلك الجائزة القيمة, وأنا أتساءل: " ياترى, ماذا ستكون الجائزة..."
وصلت المنزل فطرقت على الباب طرقات خفيفة وفتحت أمى بعد ثوان, وسألتنى ماذا فعلت اليوم عند الشيخ , فأخبرتها أنى سمعت جيدا, ورضى الشيخ بهذا الحفظ, فطلبت منى أن أسمع لها حتى تتأكد, فسمعت وسعدت بهذه التلاوة, وقالت "أحسنت, فلتذهب لآن لتذاكر دروسك المدرسية ثم حفظ السورة الجديدة"
فتذكرت أن أخبرها: أن الشيخ اختارنى من أفضل خمس حافظين للاستعداد لمسابقة المحافظة.
ففرحت فرحا شديدا بهذا الخبر وعلامات السعادة تعلو جبهتها, وضمتنى بين جناحيها وهى تدعو لى بالسعادة وبالتفوق ورضا ربى. وقالت: "أسعدك الله يابنى, سيفرح والدك كثيرا بهذا الخبر". فقبلتنى على رأسى وقالت : "يجب أن تتفوق أيضا فى المدرسة"
فسألتها: " هل سيعطون من يحفظ جوائز قيمة؟"
فابتسمت قائلة: "نعم, المتفوقون فى المدرسة أيضا يحصلون على جوائز"
ففرحت لهذا الخبر, ورحت أستعد لحفظ القرآن جيدا استعدادا للمسابقة, وأحلام الجائزة لاتفارقنى..