السائق ينفخ والركاب ينفخون, أما الكمثرى فقد وجد مخرجا إلى باب السيرفيس ,الذى امتلأ وتكدس بالبشر, ليطل منه على نسمات الهواء المتلاطمة. حظه من السماء من يمتلك ورقة أو كشكول ليهوى به عن نفسه, لأنه لو لم يفعل فقد يختنق, أما من يجلس بجوار شباك فهذا بلا شك ابن أم مستجابة الدعاء, وقد دعت له قبل أن يخرج.
خرجت من السيرفيس وأنا ألعن السيرفيس على أصحابه الذين وصل بهم الجشع ليكدسوا الناس بهذه الطريقة فى هذا الحر القائظ.
وفى وسط هذه اللعنات الزافرة مرت أمامى سيارة ميرسيدس مكيفة موديل حديث, بدا لى الأمر وكأنى تائه فى الصحراء يقتلنى العطش, ويمر أمامى ليث يحمل على ظهره قارورة ماء بارد.
لكن سرعان ماأخرجت نفسى من هذه الصحراء, فأنا أخاف الأسود ...
لكن قارورة الماء لم تغب عن مخيلتى وتمنيت لو أن معى بضعة مئات الآلاف من الجنيهات فأشترى قارورة مكيفة.
واسأنفت طريقى إلى البيت, أطرق رأسى نحو الأرض بعيدا عن آشعة الشمس الحارقة, فأرى الأرض تدور تحت قدمى بكل تفاصيلها الرمادية, إلا أنى لمحت ورقة خضراء, فامتدت يدى إليها فإذ هى ورقة بخمسة جنيهات, هيأتها تقول أنها لم تعاشر الأرض كثيرا, وأنها وقعت من صاحبها منذ فترة قصيرة, فالتفت حولى, فلم أجد هيئة وجه يبحث عن خمسة جنيه..
فسولت لى نفسى أن أحملها معى إلى البيت حتى إذا صليت العصر فى المسجد أضعها فى صندوق المفقودات.
صليت العصر لكنى لم أجد أى صندوق. ورجعت البيت ومعى الخمسة جنيه, تحيرت فى أمر هذه الخمسة جنيه, فقررت أن تظل معى حتى أجد حلا مناسبا.
ومر يوما تلو الآخر وأنا أتكاسل عن التصرف فى هذه الخمسة جنيه, حتى اعتُبِرت من مالى الخاص بعد مرور مدة ليست قصيرة, وتم الزج بها فى إحدى مشترياتى.
بعد يومين ذهبت لشراء فلاشة بسعة 4 جيجا من محل أجهزة إلكترونية, ثمنها خمسين جنيه. كانت حاجتى إليها لنقل الملفات التى أحتاجها لدراستى. فى اليوم التالى بعدما رجعت إلى البيت من الجامعة وفتحت جهاز الكمبيوتر لمراجعة الملفات التى على الفلاشة , امتدت يدى إلى جيبى لألتقطها , لكنى لم أجدها فى جيوبى, بحثت هنا وهناك لكن بلا جدوى, فاتصلت بصديقى الذى نقلت منه الملفات, فأكد لى أنى أخذتها معى, سلمت أمرى لله... فقد ضاعت. كان ذلك يوم الخميس, وجاء يوم الجمعة وسأسافر إلى بلدتى, فجهزت حقيبتى وتوكلت على الله وسافرت . قضيت يوما حاولت فيه أن آخذ من بعض المتع قدرا ضئيلا يناسب هذه الفترة المتواضعة. ورجعت السبت عصرا وكانت أمى قد زودتنى بألوان من الطعام, بط ومحشى وكفتة وإلخ مما تشتهى نفسى....
وصلت موقف السيارات وألقيت الحقيبة فوق الميكروباص وانطلقنا... ومضت نصف ساعة حتى انتابنى شعور غريب هو أقرب للقلق, ففكرت فى الحقيبة , لم أربطها, فقط اكتفيت بثقلها يثبتها..... على الفور استوقفت السائق لأطمئن عليها. فنزلت ورفعت بصرى إلى أعلى, ولم أجدها..... فهوت على كما تهوى الصاعقة , وجثم على صدرى شعور بالتيه.
لاأدرى ماذا أفعل, وكيف سأسافر وكان بها كل أغراضى!
فبحثت عنها فى بأس فيما مضى من طريق, ولم أعثر عليها, لقد اختفت تماما. اختفت كما اختفت الفلاشة, شئ غريب !!
فعدت إلى بلدتى, فتعجبت أمى وانزعج أبى, ولما بدا لهما من فاجعتى أشفقا علىَ وأخذا يهونان على من أمرى.
وسافرت فى صباح اليوم التالى بحقيبة صغيرة بها بعض الضروريات التى لاغنى عنها. ووصلت السكن بعد عناء سفر شاق فى الحر قائظ. استلقيت على السرير من شدة الإرهاق, ثم رن هاتفى فالتقطته وما إن فتحت وقلت "آلو" حتى نفذت البطارية, فهممت بشحنه, فتذكرت أن الشاحن كان فى الحقيبة..... إنه النحس بكل معانيه !
كان على شراء فلاشة أخرى فكثيرا ماأحتاجها, فاشتريت واحدة بسعة 8 جيجا ثمنها 85 جنيه.
وجئ يوم الجمعة المنتظر. وجهزت الحقيبة الجديدة وانطلقت إلى الموقف وربطتها بإحكام بواسطة حبل جلبته مخصوص لهذا الغرض وبعدما تأكدت من إحكام ربطتها دخلت الميكروباص وانطلق بنا السائق......
وبعد مضى قرابة الساعة والنصف على الطريق وصلت إلى المدينة والتى تبعد عنها بلدتنا بضع كيلومترات, فأستوقفت تكتك ودللته على البلده وانطلق, كان الطريق غير معبد ملئ بالمئبات فكان التكتك يهتز صعودا وهبوطا بين الحين والآخر وكاد هاتفى ينزلق من جيبى فانتبهت لذلك فأخرجته ووضعته بجوارى بمأمن عن الانزلاق والوقوع.....
وبعد ربع ساعة وصلت المنزل واستقبلتنى أمى بحفاوة وسلمت على أبى, وأخذت أستريح من عناء السفر. أردت الاتصال بصديق لى, فقمت لألتقط الهاتف , لكنى لم أجده فى جيوبى ولا فى البيت,,,,,,, لقد نسيته فى التكتك !!
هنا احمر وجهى وحدث اضطراب فى قلبى, فأخذت هاتف أبى فأتصل على هاتفى فيسمعه من يجده , لكنه "مغلق", إذا لقد انتبه إليه السائق ..
أى نوع من النحس هذا!
العجيب فى الأمر أنه فى أول الطريق توقف سائق التكتك يتحدث مع صديق له وكان الحديث كالتالى:
السائق: أريد منك أن تجد لى هاتف مستعمل, لأن هاتفى قد تهشم ولم يجدى معه إصلاح.
صديقه: سأحضر لك واحد بمائة وخمسين جنيه.
السائق: ياراجل خليها مائة جنيه.
هنيئا له فإن هاتفى بألف جنيه !
غادرت المنزل وسافرت إلى مسكنى ولدى إحساس بأن كل ماأملك يضيع منى .
أول شئ قمت به حينما وصلت,أن أراجع كل ماجئت به, الحمد لله كله موجود...
إلا الفلاشة. بحثت عنها بشى الطرق واتصلت بالمنزل ولم يجدوها, إذن فقد ذهبت إلى المجهول الذى يأخذ منى كل شئ.
جلست أتأمل حالى وأرى ماذا سأفقد بعد ذلك. ذهبت الحقيبة بما فيها, ذهب الهاتف, ذهبت فلاشتين, حتى الشاحن لحق بهم.
كلهم ذهبوا فى أقل من أسبوعين, كيف أستطيع تحمل ذلك, بالتأكيد هذا غير طبيعى.
أخذت أفكر وأتساءل: ماذا فعلت فى دنياى , هل ظلمت أو اعتديت على أحد , هل,,,,,,
هنا تذكرت الخمسة جنيه, تذكرتها وكأنها تقف أمامى تعاتبنى.
فتوقعت أو تيقنت أن كل ماحدث لى هو بسبب تلك الخمسة جنيه, قد يكون صاحبها قد رفع يداه إلى السماء داعيا على من يجدها ولم يردها إليه, وقد استجيب دعاءه باقتدار إلهى .
فأخذت على نفسى عهدا أن أردها, أردها إلى شخص محتاج.
فوضعت فى جيبى اليمين خمسة جنيه منفردة, حتى إذا قابلت محتاج, أعطيها له باسم صاحبها لا باسمى.
فقابلت فى طريقى إلى الجامعة عجوز هرِم يبدو أنه فى أشد الاحتياج. فوضعت فى يده الخمسه جنيه وفرح بها فرحا شديدا وحاول أن يرفع رأسه فى وجه الشمس ليشكرنى, لكنى رحلت ونويت فى نفسى أن تكون حسناتها لصاحبها, ليس لى منها شئ...
وأخيرا تنفست الصعداء, وذهبت لعنة الخمسة جنيه إلى الأبد.