الإمبراطور
وطأت قدمه خارج بوابة السجن .
حاول مراراً أن يطير طائرته الورقية وهو يركض على الأرض الطينية حافياً ، ولكن الطائرة ما أن تبلغ ارتفاع أكبر شجرة حوله حتى تأخذ منحنى عكسياً وتسقط على الأرض .
يرتفع وجهه في بطئ ليواجه الشمس .. فتشرق ملامحه التي أضناها الظلام لسنوات ..
يضع القلم بين شفتيه وتشرد عيناه ، حينها يتأكد أنها مسألة صعبة ، يركض إلى أمه والكتاب في يده كي تساعده .. لكنه يجد الضوء الأحمر مشتعلاً على باب غرفتها التي تنطلق منها أصوات الضحكات والقهقهات .. وقف أمام الباب .. أطرق قليلاً .. ـ إياك أن تدخل ذات مرة عندما يكون الضوء الأحمر مشتعلاً ، أتفهم ؟
تذكر قولها وهي تشير بسبابتها محذرة .. عيناها لم يكن فيهما صورته ، بل صورة اللمبة الحمراء التي ظلت مشتعلة لعشرين عاماً ! أدار ظهره وذهب إلى الشباك ليسجل في ذاكرته مشهد الغروب الذي اعتاد أن يسجله مراراً بعد ذلك .. وأبداً لم يسجل مشهد الشروق !
يتطاير شعره مع هبة ريح خفيفة ، تتطاير معها ذكرياته كأوراق الشجر ..
وهو صبي في الرابعة عشر قال لها أحبك .. فلم تهتم ، لم تشرح له عقبة فرق السن بينهما ، ولم تعترف أنه لم يكن لها سوى مجرد تسلية .. غابت عنه أياماً ، فتسلل إلى غرفتها ليلاً وطبع قبلة غلفها بكل الحب والحنان والشوق في قلبه على خدها .. نهضت في فزع ، نهرته بصوت عال وطردته من حياتها . لم تمر أيامه بعد ذلك إلا في ألم وندم ، بذل مجهوداً خرافياً في تجميع أزهار النرجس التي كان يسرقها من فيلا الخواجة التركي الساكن خلفهم . عندما ذهب بباقة الأزهار التي تحبها ليصالحها .. اكتشف أنه يوم زفافها !
تتحرك القدمان الواهنتان في الطريق .. تغيرت الشوارع وتغيرت الوجوه .. يمر بين الناس وكأنه مجرد هبة ريح نتنة لا يكلف أحد شقاء النظر إليها .. وكأنه لم يكن يوماً على العرش ؟!
تتطاير أوراق صفراء وحمراء وبيضاء في الهواء ، يلتقط إحداها فيجد عليها صورة شخص في الستينات يرتدي نظارة دائرية صغيرة ، ملامح الوجه المترهلة تناسب الشعر الرمادي والبنية الواهية ، فوق الصورة كتب بالخط العريض : مصطفى كامل . ابتسم ابتسامة خفيفة ، طوى الورقة ووضعها في جيب معطفه .
( إلى أين أذهب ؟! ) ظل السؤال يسيطر عليه منذ أن علم بقرب خروجه من السجن ، وفي النهاية .. لا إجابة ..
كان جالساً على مقعده يضع إحدى رجليه على الأخرى ينفث دخان سيجارته في كبرياء عندما دخل عليه مجموعة من ضباط الجيش ، رفع سماعة هاتفه ليتحدث .. بدون أن ينطق وضع السماعة وسقطت السيجارة .
( نعم أنا ظالم .. أنا رمز للفساد .. أنا أحقر شخص جلبته البشرية )
عندما مثل للتحقيق ، كانت أول التهم الموجهة له .. تلفيق العديد من القضايا لرموز الإصلاح في الوطن على رأسهم .. مصطفى كامل !
أغبياء ماذا تنتظرون من شخص يولد في مجتمعكم المفكك القائم على الكذب والنفاق والمحسوبية والرشوة ؟!
ليس هذا مبرراً ..
بلى إنه لمبرر ومبرر قوي أيضاً .. ماذا تنتظر من شخص كانت أول صرخات ولادته في كازينو بديعة الراقصة ؟! ، شخص تربى بين أيدي الماجنات والساقطات الي كانت ترد على الكازينو . ماذا تنتظر من هذا الطفل الذي لم يعرف مذاقاً واحداً لحليب رضاعته ، الذي عندما تفتح وعيه أول مرة كانت أوقاتاً من العري تقضيها أمه كل ليلة بين أحضان الرجال ؟! عندما قرر هذا الطفل أن يتطهر من ماضيه ويبدأ حياة جديدة ، ظل الجميع يناديه بابن العاهرة . هل تنتظر منه أن يكون مهندساً أو طبيباً أو رمزاً للإصلاح ؟! .. أنتم السبب ولا تنكرون .
لا تنس أنك وصلت إلى مالا يطمح أحد .
ولكن بعد أن تخلصت من الماضي !
ماذا تقصد ؟!
قتلته .
من ؟!
الماضي .
قتلت أمك ؟!
وأقتل أبي لو كنت أعلمه أصلاً .. ثم لماذا تتعجبون هكذا أولست بشراً مثلكم ؟!
يقف أمام أحد أكشاك الصحافة ، تقع عيناه على صورة مصطفى كامل الذي تصدر صفحات الجرائد والمجلات .. يلتقط إحدى الجرائد وعيناه تتنقل في تردد بين الجريدة و صاحب الكشك في جلبابه البلدي . نعم أنا من دبر له قضية أكياس الدم الفاسدة وقضية الرشوة والقمار ، ولكن أيضاً لم يكن شريفاً فلطالما قايض المخدرات بالأدوية ، بل أصبح حريصاً جداً لدرجة أنه لم يتمكن أي شخص من إثبات ولو خطأ واحد عليه .
لم يغب عن عيني صاحب الكشك وهو يرتشف شايه في هدوء مترقباً له جيداً .
ولكن أنا لم أفعل شيئاً ، كل ماحدث أنني فكرت وجهرت بفكرتي ، فراحت الكلاب تخطط وتنفذ . نعم الكلاب التي لطالما مزق نباحها سكون الليل ، أشداقها ترعب أي شخص يفكر الإقتراب من حصني .
ولكن عندما سقطت من على مقعدك ، خرست الكلاب ، وكأنها فقدت السمع والنطق والبصر إلى أن جاء مصطفى كامل فعادت تنبح من حوله ثانية .
لم أشعر يوماً أنني ضحية ، كنت أعلم أنها كأس وتدور ، لم أهتم بتحصين نفسي لأنني أعلم أنني مهما حاولت فلا مجال للفرار من السقوط . لقد تصدرت صوري صفحات الجرائد والمجلات ، وصرت حديث الإعلام في عهدي ، وصفوني برائد النهضة ولقبوني بالإمبراطور .. ولكن لكل جواد كبوة . أتعلم .. لقد صفقت لي كل هذه الجماهير التي تصفق اليوم لغيري . ماذا تقصد ؟!
كما قلت لك هي كأس ودائرة .
ـ حمداً لله على سلامتك يا ولدي .
قالها صاحب الكشك في لهجة جامدة لا تميل للفرح ولا الحزن وإنما تقترب من الشفقة ، ثم سحب الجريدة من بين أصابعه وأدار له ظهره متجهاً إلى مقعده .
يسير متخبطاً في اتجاهه ، لا يعرف حقاً إلى أين يذهب ؟! .. يبتسم مرة ويضحك ساخراً مما حوله مرات .. ولكن يظل أنه لم يبك أبداً في حياته .. لا عندما سقطت الطائرة رافضة الطيران .. ولا عندما رأت عيناه البريئتان أمه تبيع عريها أمامه .. لم يبك .. عندما التفت الأغلال حول معصميه ، ولا عندما أخبره الطبيب أنه لا يمكنه الزواج .. فلم يهمه أن يتخلى الجميع عنه .
ـ يا إلهي لماذا لم تأخذ حذرك يا ولدي ؟!
ـ يا جماعة اطلبوا الإسعاف بسرعة .
ـ لقد وصلت الإسعاف ، هيا احملوه بسرعة إنه ينزف بشدة .
وهم يحملوه إلى المستشفى لم يفكر أن تكون السيارة التي صدمته لأحد كلاب الحراسة ، ولم يفكر أنه عندما دخل السجن نام على نفس السرير الذي نام عليه مصطفى كامل في اللحظة التي كان الأخير يأخذ مقعده الإمبراطوري .. بقدر ما فكر في أنه ذاهب إلى نفس المستشفى في نفس العنبر الذي دبر فيه ذات مرة حادثة قتل الماضي .
( تـمـــت )