وتبقى الثورة
فى الذكرى الخمسين للثورة المصرية , ووسط حشد هائل من الجماهير يصل عددهم بالملايين , وفى هذا الميدان العظيم , وقف أحد أبطال ثورة 25 يناير يتحدث عن الثورة التى غيرت مجرى التاريخ ليس فقط فى مصر بل فى العالم , أراد أن يشعل روح الجهاد الثورية فى قلوب الحاضرين , فأخذ يتحدث عن الفساد والحكم الظالم للطغاة وكيف قضت الثورة عليه لسنوات طويلة ...
وبإشارة مسرحية من يديه , أنطفأت الأنوار فى هذا الميدان المحتشد بالناس وأضاءت من خلفه شاشات العرض ذات الأحجام الكبيرة المحيطة بالميدان فى كل أتجاه .
أضيئت الشاشات لتعرض أهم فيلم وثائقى تاريخى يتحدث عن أهم وأعظم ثورة فى التاريخ ..
وفى ظل صمت رهيب من الحاضرين حيث أعينهم المعلقة بالشاشات التى تعرض الأحداث العظيمة للثورة ممزوجة بأصوات الموسيقى الثورية لبعض الأغانى القديمة التى عايشة الثورة والتى يغنيها عمالقة الغناء القديم امثال ( محمد منير وعلى الحجار وحماده هلال ) وغيرهم من المطربين الشرفاء الذين ساندوا الثورة ووقفوا معها منذ البداية , مع أغانى لبعض المطربين الذين أقتنعوا بالثورة وتغنوا بها ولكن بعد نجاحها ...
يظهر على الشاشة ميدان كبير بالعاصمة يمتلئ بالملايين من هذا الشعب العظيم بمختلف أطيافه , كما يظهر على الشاشة ميادين أخرى فى باقى محافظات مصر مقتظة بالناس الثائرة .
إنها ليست المرة الأولى التى يقف فيها الناس أحتجاجا على نظام الفساد الموجود بالبلاد , ولكنها بالفعل المرة الأولى التى يتجمع فيها الشعب ليقف وقفة رجل واحد , وعلى قلب رجل واحد , ليتحدثون بلسان واحد يعبر عن مطالب الشعب والأمة كلها .
شاشات العرض تزدحم بالصور والأحداث المتتالية , يظهر على الشاشة عربات تجول الشوارع تنادى بآدمية الشعب المصرى , سقوط الطغاة , وبحق الشعب فى حياة كريمة وتعليم صحيح وصحة سليمة .,
اللافتات والأعلانات تملئ الشوارع تنادى بالكرامة والحرية ., الشباب يهتفون بأعلى صوت لا للفساد ,لا للمحسوبية , لا لتدخل الدول الأجنبية فى شئون البلاد , لا لضياع الهوية , ولا تنازل عن القضية الفلسطينية ...
صور لشوارع مزدحمة بالناس , عربات الشرطة تحيط بهم فى كل مكان , العساكر يضربون بالعصى والمولوتوف و القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحى والمطاطى ...
ولكن الشعب قوى صامد يصر على المطالبة بحقوقه بمنتهى الرقى والتحضر , بعقول متفتحة و أقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة .
النيران تشتعل حولهم فى كل مكان , الرصاص يضرب الصدور , الدماء تسيل على الأرض لتطهر ذل ونجس السنين
الشعب تيقدم ولا يبالى , العالم يرى هذه الصور المبهرة للعيون والعقول والمثيرة لأعجاب وتقدير العدو قبل الصديق
القنوات الفضائية الحرة تشيد بشجاعة ورقى وحضارة الشعب وتؤيده فى المطالبة بحقوقه وأحقية حصوله عليها , أما القنوات الرسمية المصرية المعبرة عن الطغاة يظهر عليها شياطين الأنس ليشككوا فى نزاهة وشرف الثوار .,
الأرتباك فى كل مكان , الأحداث تتوالى بسرعة رهيبة , الأنفس تلهث من كثرة الأنفعال , الأخبار تتضارب من هنا ومن هناك , أحدهم يبشر بالنصر , والأخر يهدد بالخراب , النفوس ينتابها مشاعر الفرح بالحرية والحزن على الشهداء , الأمل فى الأستقرار والخوف من عدمه
الشعب يرفع يده داعى الله أن يمده بالعزيمة والقوة والنصر
الأيام تمر , ولكن النفس المصرية المجاهدة لا تمل ولا تستسلم , فالثوار واقفون لا يبالون بالجوع والعطش الذى تسرب إلى أمعائهم , لا يتأثرون بقسوة و برودة الجو ليلا ولا لهيب الشمس نهارا ., فقد صمموا على الأنتصار وعدم التضحية بدماء الشهداء الأحرار
يظهر على الشاشات تصريحات بلهاء من ممثلى الحكومة لتصف حالة الأستقرار والهدوء التى تعم البلاد , ووصف الثوار بكونهم مرتزقة أشرار , كما آمروا بأنقطاع الأتصال و منع التواصل عبر الشبكات والأقمار ...,
يظهر اللآن أغرب جزء فى الفيلم والذى يعتبر من غرائب ونوادر الحكومة البائسة التى أرسلت بلطجية يركبون الخيل والجمال ومعهم سيوف وكرابيج لينقضوا على الثوار فى أغرب معركة عرفها التاريخ الحديث و لكن كما يقولون فقد أنقلب السحر على الساحر لتكون هذه الموقعة بمثابة القشة التى قسمت ظهر البعير وأعلنت بداية أنتهاء سقوط النظام
الفيلم يمر بسرعة , الأحداث تتزايد , دماء الشهداء تتناثر فى كل مكان , ناهيك عن الأصابات الخطيرة القاتلة التى أصابت الرجال والشباب ولم يسلم منها الأطفال ,.
ولكن الشعب مازال صامدا حتى نهاية سقوط النظام ..
الفيلم أوشك على الأنتهاء , الشعب يودع الشهداء بصلاة تاريخية تجمع بين تكبيرات المآذن وأجراس الكنائس فى مشهد مهيب بين الهلال والصليب , فيد الشعب متماسكة وقدماه ثابتة وعيناه تنتظر فجر قريب نكتبه بدماء الشهداء ونشارك فيه بالعمل والجدية والإيمان
وكنهاية كل الأفلام الخيالية والواقعية وحتى التاريخية , يسقط الطغاة الواحد تلو الأخر , ليتعلم العالم ان إرادة الشعوب فوق الجميع وأنه مهما طال الليل وظلامه فبلابد من فجر جديد
وفى اللحظات الأخيرة من أنتهاء عرض الفيلم , يظهر صور مكبرة على شاشة العرض تضم صور شهدائنا الذين ضحوا بأعمارهم وشبابهم ,
فيالها من تضحية عظيمة ولكن أجر الله أعظم ..
ينتهى الفيلم , تنطفئ الشاشة , ويضاء نور الميدان من جديد , فيهلل جميع الحاضرون ويكبرون بأصوات عالية وعيون دامعة وشفاة مبتسمة وقلبا ينبض بالحرية وعقل قادر على مواصلة الجهاد لتستمر الحياة
يتجمع من جديد على المنصة أبطال هذه الثورة ويمسك أحدهم بمكبر الصوت ليكبر ويبكى ويقول
( أيها الشعب العظيم هذه كانت ثورتنا الأولى التى نحنفل اليوم بذكراها الخمسون والتى نجحت وأبهرت العالم , والتى أخذت منا شبابنا وأعمارنا لتعيش بعدها فترات أنتقالية عصيبة لنتطهر الأمة والوطن والنفوس , ليمن الله علينا بعدها بحياة حرة كريمة عشناها وتمتعنا بها بالفعل لسنوات , ولكن دوام الحال من المحال , فقد تغيرت الأحوال وفقدنا الأمن والأستقرار لتعود بنا الأمور لما كانت عليه من فوضى وفقر وفساد , لذا فقد حان الآن وقت ثورة الشعب الثانية التى أتمنى ان تكون نظيفة وسلمية كمثيلاتها الأولى , ولهذا فقد أحتشدنا جميعا فى هذا الميدان كما يحتشد أهلنا فى جميع المحافظات للمطالبة بسقوط النظام وعودة الحرية ) ..
أشعل صوت الرجل وجرأته وحماسه قلوب الملايين المحتشدة , فهللوا وكبروا وقرروا استمرار ثورتهم حتى النهاية ..
نفس المشاهد تتكرر بعد كل هذه الأعوام , الملايين فى قلب الميدان , الشوارع مزدحمة بالناس , اللافتات معلقة فى الطرقات , الشباب الثائر ينادى بسقوط النظام الفاسد الذى أمسك بالبلاد مؤخرا ..
الشعب يثور من جديد فهل ستتكرر الأحداث ويسقط الشهداء وتعم الفوضى البلاد ,
أسئلة تدور فى ذهن الثوار مع قرارهم بالأستمرار ,
ومع أحتشاد الملايين فى الشوارع والميادين وأصرارهم على التغير ,
حدث ما لم يكن متوقع وما لم يحدث من قبل
يظهر أكبر المسئولين ليعلن بيانه التاريخى
( أيها الأخوة المواطنون , أبناء مصر وشبابها , أيها الشعب العظيم الذة يستحق الحياة , نحن نعترف بأننا مخطئون فى حق الله وحق الوطن والشعب , لذا فقد قررنا الأنسحاب من الحكم بدون عنف أو مراوغة , وبدون أن ندخل مع الشعب معركة ندرك نهايتها مسبقا , لأن الشعب هو المنتصر دائما لأن معه الحق , فأنتم من يستحق الحياة . ولكم الحق فى أختيار من يحكمكم ويدافع عنكم )
ومع هذا البيان وغيره من البيانات المتتالية أيقن الشعب أن ثورته الثانية قد نجحت بدون إراقة الدماء
فهدأ الشعب بتحقيق مطالبه وأستقرت البلاد وعاد الأمن والأمان للمواطنين ,
ولكننا ندرك وعن يقين أنه بمرور السنين ستنقلب الأحوال من جديد ويعود المفسدين الأشرار لتنتهى بمعركة ثالثة ورابعة يقودها الثوار الأحرار
فلتبقى الحياة ,
ويبقى الشعب ,
وتبقى الثورة ...
بقلم
د. أسماء مصطفى