]
وكأنك تسمع صوت خواطرك دراسة لديوان (( حساب العمر م البدايات )) للشاعر/ خميس حسون بقلم الاستاذ / عبد الباقى عطية
يقبل القراء على مطالعة شعر اليوم مدفوعين برغبة صادقة فى الاستمتاع
بفن الشعر فتصدمهم ألوان تبعدهم عن التذوق وتبعدهم عن الاستمتاع .
بعض المبدعين يذهب برأى متطرف من وجهة نظرى يقول بأن المبدع عليه أن يعبر وحسب ولا يضع المتلقى فى إهتمامه .
وهنا أسأل أنصار هذا التيار لمن تكتبون ؟ فإذا كانت الاجابة التقليدية
"نكتب لأنفسنا" فلماذا تنشرون إذن ؟ وإذا كنتم تنشرون فمن قراؤكم ؟ إنكم المسؤل الأول عن الفجوة الواسعة والهوة السحيقة بين رجل الشارع والشعر , وأنا أرى أن قصائد خميس حسون تهز الوجدان وتزلزله وبنفس الوقت نشعر بقصدة لأنه يعبر بصدق وتلقائية يعبر ببساطة لا يشوبها المباشرة أو التقريرية , ونسمعة يهتف بنا من بين السطور
" أحاول أن يكون لى مذاقى الخاص " ….. وقد إختار شاعرنا الإبداع بالعامية .
ومن الأفكارالشائعة التى تصل لدرجة المسلمات ؛أن التركيب اللغوى للمجتمع المصرى يقوم على محورين الفصحى فى أقصى اليمين والعامية فى أقصى اليسار دون أن يكون بينهما لقاء مشروع أو مشروع لقاء.
ولكن شاعرنا استطاع مد جسور بين عاميته وبين الفصحى فى نمط متوسط وكأنه اللغة الثالثة التى تحدّث عنها توفيق الحكيم فى مسرحيته
(الصفقة).ومن المعروف أن نشاط العامية يمتد أفقياً ليصنع العديد من اللهجات الجغرافية مثل لهجة دمياط والشرقية وقنا ……..إلخ , كما يمتد رأسياً فى المنطقة الواحدة ليصنع العديد من اللهجات الطبقية مثل لهجة العوام ولهجة المتعلمين وأنصاف المثقفين …….إلخ , ولا يمكن وضع حد فاصل بين اللهجات جغرافياً كما أنها تتداخل رأسياً حتى تصنع تيهاً من اللهجات العامية . إلا أن مستويات اللغة فى مصر يمكن تصنيفها إلا خمس مستويات معاصرة وهى فصحى التراث وفصحى العصر وعامية المثقفين وعامية المتنورين وعامية الأميين , وقد إختار شاعرنا عامية المثقفين ليبدع بها وهى عامية متأثرة بالفصحى وبالحضارة المعاصرة .
واللغة عند خميس حسون بمثابة الكائن الحى اذ تتجد أنسجتها وخلاياها فتطرد الخلايا الميتة وتخلق خلايا جديدة تعمل على استمرارية اللغة داخل الزمن . فهو يمتلك معجمه الخاص , والقارئ ستفاجئه مفردات جديدة لا تستخدم فى العامية كثيراً فيقول خميس حسون:-
خطفتنا أيام الهموم الزوبعةورمتنا من فوق للسفوحخلف الصقيع والامتهانتحت الجزور المتعبةكست السحابات النباتخمسة أسطر أقرب للصفحى منها للعامية ., وانظروا إلى مفرداته الخاصة الأقرب للفصحى والتى يستعملها فى بساطة ومرونة كمفردات
الإغتراب - الإنحدار – الانفلات – البلادة - الشجر الوارف – الهذيان- الهطول- النحيب – الطيات – الإرغام – الهدهدة - الاستنشاق – النور الخافت – الوجه العابس – الانعدام – المنتهى – الوهن – الأبواب الموصدة الترتيل )ولا شك أن بيئة الشاعر الخاصة لا بد أن تترك اثرها وعبيرها فى قصائده ومن ذلك قوله فى قصيدة
" من أحلام الشاعر ":-
أنا شوفتك فى البحر قوافىصفحات بتقلب وتوافىفى شباك الصياد ع الميةوالسرحة ف ساعة الصبحيةمعزوفى على حبال الشبكةمطوية فى طيات الخيةكما نجد فى مفردات هذه البيئة فى أشعاره حيث
( المركب والصارى والبلطية واللمبة السهارى والنخيل وشجرة التوت ووابور الجاز والراكية وأغصان الكافور )ولأن النظرة الشمولية تسيطر على الشاعر فإن الموروث التاريخى والشعبى يظهر بشكل أوضح فى مفرداته فيستخدم مفردات
( كالفرمان والدرك والحرس والعسكر والسلطان والحانات وعنتر العبسى والشاطر حسن وست الحسن ) ومن هذا ما جاء فى قصيدة
" بيتنا القديم ":-فى مرة قالو فى البلد عسكر السلطان بتهجم ع البيوتويستطرد قائلاً:-دخلوا العساكر جوه بيتناوساقوا جدى بالبنادق والسياطسبق النحيب صوت العياط اختار خميس حسون اللغة الخاصة التى تناسبه,كما تعمّد أن يكون جديداً فى صياغته نابعاً من ثقافته وموروثاته وموقفه الشخصى معبراً عن كيانه فى لغة تنبع من مياهه الجوفية ومن تياره النفسى المعبر عن واقعه المعيش ,بل واقع جيله بأكمله .وكما نجح فى اختيار الرمز الذى سيعبر به فلم يجد رمزاًأفضل من المرأة .فهو رمز ثرى مفعم بكل تفاصيل الطبيعة والحياة ,فالمراة رمز غنى بالدلالات ,هى الأمومة والطفولة والفرح والحزن والعجز والموت والخصب والميلاد . بداخلها تتفاعل قوى الحياة والموت فى صراع أبدى لا يتوقف وهكذا اختار الشكل الذى سيعبر به عن تجربته الشعرية .اما الملمح الغالب على شعر خميس حسون هو قضايا وطنه زمنه وجيله فهو يعكس كل هموم العصر وكل عذابات الحياة فضلاً عن كل أشواق الحرية . ومن ذللك قوله فى قصيدة " حكاية من أوراق السفر " :-وكان أملى وانا مسافر تراجعينىبدل دمى ميتبعتر على السكةوخنجر ذلك المسموممايقتل هالة الضحكةتعاود محنتى تغزلحنين الرحلة جواياأشيل همى فى كل مدينة فى الدنياألاطم فيها أمواجهاتلاطمنى .حكاية الإغتراب وتجربة السفر من أجل الحياة تجربة خاصة جداً وعامة جداً. فجيل الشاعر عاش عاش تجربة السفر إلى الخارج رغم أنه عاتب على وطنة الذى قتل فيه الضحكة , وفى الغربة يطغى صوت المادة ويخسر كل شيئ حتى مشاعره / وأحلم إنى أبيع الأرض والسماواتلدم لاهو من دمىولا لونه شبيه لونىوابيع حتى عناوينى ف مدينتناشقايا وحلم أولادىأثور على كل شيئ فىّوأترحم على طفولتى.ويبقى صراع الفرد العنيف لينال حريته ويحقق الإنعتاق من مجتمع ظالم .أرضية خصبة ومتجددة دائمًا لولادة الشعر.وتراكم الخبرة والتجارب الإنسانية العامة فى مواجهة هذا الظلم تجعل شاعرنا قادراً على أن يستفز كل صور التعب والإذلال والمهانة والغربة على الصعيدين القومى والإجتماعى من أول ضياع الوطن حتى ضياعه هو شخصياً فى زحمة الحياة . وتكشف المضامين والصور ذات الدلالات الإنفتاحية عن سخونة تجربة الشاعر ووعيه بدراما الحياة من حوله وبكل ما يعتمل فى ضميره من الحزن النبيل , فهو يرفض كل أنواع القمع الداخلى والقهر الوجدانى والكبت الفكرى فيقول فى قصيدته " الموت ولا صمت الحجر " :-لا الليل كفنولا عمرك المسلوب يرجعلك وطنالخوف مبيصحيش غبىولا حلمك اللى بتحلمه لايق عليكياتكسر الصمت اللى قاتل شفتينك م الصراخيا تبلع الخوف اللى جوفك حن له .فى هذه الأشطر نضع أيدينا على الفلك الذى تدور فيه أغلب قصائد الديوان ,كما تظهر قدرات الشاعر على استكشاف جوهر الواقع الإجتماعى والإقتصادى إعادة صياغته فى رموز بسيطة يعجز الآخرون من أنصار الإبهام من أجل الإبهام على اصطيادها بينما يجدون فيما كتبه الشاعر تعبيراًدقيقاًعما يجيش فى أعماقهم .وفى مقطع آخر من قصيدته " صرخة" يقول :-النيل أمر رغم السكوتوالمستحيل خايف يموتيدخل بيوت العنكبوتويفوت لحبل المشنقةعارف يا نيليا بو المعابر والجسورالليل طويلوانت هويت الشرنقة .لقد خلق الشاعر من النيل رمزاً صالحاً للتحاور حول قضايا المجتمع ,فالنيل هنا يرمز ليس لذلك المجرى المائى المجرد وإنما هو يقترب من قضية الوطن ككل ,فالشاعر هنا يواجه فى مساره وسلوكه رافضاً خضوعه واستكانته . وهذا سر جودة القصيدة ,إنها تتجاوز المعنى المباش إلى عمق المعنى بعيداً عن التهويمات التى تعانيها الكثير من الأعمال . وهو يشعر بالغربة العميقة فى هذا الواقع وهذا المجتمع المنقسم على نفسه الذى تفترسة المادة وتحركه المنافع الشخصية الضيقة وهو نفسه العالم الخاص للشاعر حيث تعلو قيم المادة وتفقد كل المعانى الثرية ,ومن ذالك قوله فى قصيد " فى عيون صحابى " :-فى عيون صحابى المحتاجين القوتما عدش شيئ يتذركر فى الغربة إلا الموتولا شيئ يبّكى فى حايتنا إلا اولادنالما الولد ترتسم فيه الطفولة يشيبيفتح كتاب المطالعة ويمتحن فى الذلكان ليه أبونا بيعلمنا نقرا تاريخنشيل هموم البشر ونبتلى بالغل.والقارئ المتأمل لشعر خميس حسون سيدرك أنه لا يلجأ إلا الغناء الفردى الحزين المفعم بالألم , بل هو ينتقل من العاطفة الخاصة إلى العاطفة العامة الجماعية فى نعومة ويسر . فقد استطاع أن يخلق تجربته الخاصة ويجد لها مع تجربة الجماعة ليمس الوجدان بفضل التدفق التلقائى لمشاعرنا – أقصد لمشاعره الصادقة – بعيداً عن الصور المبهمة التى تدور بلا فلك . ويتجلى ما أشير إليه فى قصيدته " خسرت الرهان " فهو يدخل فى رهان مع الوطن الذى حمله فى صدره وفى كيانه , يراهن بكل ما يملكه حتى أنه يراهن بأسنانه فى صورة أراها فريدة وتمتلك العديد من الدلالات . ويقول فى القصيدة :- راهنت بفصاحة لسانىرهنت بسنانىبكلامى اللى علمتهولىبدرس الحساب ….. بالكتاببحبر الكتابةبحارتنا إللى حضنت ألوف الغلابةراهنتك بدمىبأغلى ماعندىلكنى……..خسرت الرهان .لن أعلق على هذه الأشطر وسأكتفى بالتساؤل من منا لم يخسر هذا الرهان؟ ولأن لمرحلة الطفولة وذكرياتها نصيب فى تكوين شخصية الفرد نجدها فى الكثير من قصائد الديوان , حيث تتجسد المعاناة والألم والأمل الذى يدفع الطموح فى غد أفضل قبل أن تصدمه الحياة كما صدمتنا .وقد عبر عن مرحلة الطفولة فى قصيدة " عطش السنين الأربعة " وكالعادة عبر عن تجربته بصوت الكورس :- كنا فى حضنك كام صبىوكبرنا على عطش السؤالوالدحرجة من كوم لكومخطفتنا أيام الهموم الزوبعةورمتنا من فوق للسفوحخلف الصقيع والإمتهانتحت الجذور المتعبة . إن أشعار خميس حسون مثلها مثل كل الأعمال الناضجة لا ينتهى أثرها بإنتهاء عملية التلقى بل تستمر مع المتذوق وتترك أثرها فى ذاكرته كتجربة مثيرة مرّ بها فأمتعته وعمّقت بصيرته وأرهفت حسّه وتحولت إلى جزء عضوى من فكر المتلقى إنها دعوة مفتوحة لقراءة ديوان (( حساب العمر م البدايات )) فهو يمثل مساحة للحرية والإنعتاق أخذت من روافد الماضى لكنها لم تخضع له أو تستكين , إنها نفثة ذاتية جداً ولكنها تتسع لتعبر عن تجربة أكثر عمومية أو جماعية مفعمة بحزنه الهادى الذى يتدفق عذوبة بيت السطور ويخلق صوره البسيطة الحية المعبرة . ولا شك أن القارئ لأشعار خميس حسون سيسمع صوت خواطره .