حسن الخاتمة

[b]
دبر كل صلاة كانا يبتهلأن إلى الله أن يرزقهما من فضله ،يقتطع الزمن من عمرهما عاما" تلو الآخر ،ومازالأ يبتهلان ، يزداد الخشوع وتغلب المذلة إلى الله ،أن يرزقهما من يؤنس وحدتهما فى نهار الكد والتعب ،وليل الوحشة والسكون ،تقدم العمر بهما ويطمعان فى العطية من رب البرية ، حتى كانت البشرى بعد سنوات العقم الطوال ،كانت طفلة كالقمر فى تمامه ،وجهها كالشمس الحانية يشع نورا"،الفرحة غامرة فى قلب الأبوين الصبورين التقيين ،لكن الله يختبر من يشاء من عباده ،ويخص الصالحين ،لم تكتمل الفرحة حين بدا لهما أن إبنتهما كفيفة البصر ،مرت لحظات الإشفاق واللوعة،بركعتى الشكر والحمد لله على كل شىء ،تقلصت الأحلام والأمنيات فى معين الأبوين ،لكنهما فكرا وإتفقا على مستقبلها الآتى ،لم يكن أمامهما خيار آخر ، تعهدا بها إلى شيخ (كّّتاب) القرية ،حتى تحفظ معه آيات القرآن وتفسيره ،كان الأب يأخذها معه فى طريقه إلى عمله حتى دار الشيخ ،وعند الظهيرة تعود بها الأم ،حتى حفظت القرآن كاملا" عن ظهر قلب تجويدا" وترتيلا فى ست سنوات ،كانت فرحة الأبوين لا توصف وهى تتجلى أمامهما ببعض قصار السور ،الصوت ينطلق فى جنبات الدار كقيثارة من السماء ،كان المار من أمام الدار يقف متعجبا" مستحسنا"هذا الشدو الربانى ،لم يجد الجيران بدا" من تحية هؤلاء المارة الذين تجمعوا لسماع الشيخة الصغيرة (إحسان) سوى فرش البساط الحصيرى على مصطبة طينية فى مواجهة الدار، ذاع صيتها فى أرجاء القرية وماجاورها من كفور ونجوع ،كانت تركب الدابة لتقرأ القرآن فى بيوت المحبين، كانت الشيخة (إحسان) مصدرا" للخير على أبويها ،حتى رحل والدها عن دنياها عصر يوم ،وكانت ليلة العزاء من الليالى التى لاتنسى ،فقد كانت تقرأ ترحما" على والدها الذى لم تجف دماؤه بعد فى قبره ،كل آية تقرأها كانت تنساب الدموع من العيون ،تعجب الناس كيف تغلبت على حزنها بهذه القوة فى صوتها الملائكى الرنان ،تقرأ والناس تبكى ،كانت بكائية جماعية لم تتكرر ولن تتكرر أبدا"،حظيت بعدها بحب القلوب ،تمنى كل واحد خدمتها ،لم يمض عام الحزن إلا وتجدد بوفاة أمها ،كان عامها السابع عشر لم يكتمل بعد ،قهرها الحزن على أمها التى كانت تتكفل رعايتها رغم سنها الطاعن ،لم تقو على القراءة لها كما فعلت لأبيها ،لكن الله كان يرعاها ،سخر لها عبدا" من عباده الصالحين ،كان شيخا"كبيرا"،يصلى الفجر ويعود إليها طارقا" بابها ،يهيأها للصلاة ،ويعد لها طعامها ،وينظف لها المكان ويرحل فى هدوء،ظل على هذا الحال مابقى له من عمر حتى رحل هو الآخر،حتى تكفلتها بعض النسوة بالرعاية إمتدادا" لمهمة من كان يخدمها ،تقدم لها بعض شباب القرية للزواج ،لكنها رفضت هذه الشفقة المغلفة بالرحمة،تفرغت لعبادتها ورسالتها التى آمنت بها،كانت تقوم بتحفيظ من يأتى إليها من كافة الأعمار كتاب الله دون مقابل ،كانت تقول (إنما نطعمكم لوجه الله ،لانريدمنكم جزاءا" ولا شكورا)،لكنهم قالوا (لقد قبل النبى الهدية)،فعاشت على محبة الناس وحبهم لها ،لكنهم حفظوا من ورائها مقولتها الشهيرة لهم جميعا"(ربنا إرزقنا من فضلك ،وأحسن لنا خاتمتنا).كان كل بيت يدين لها بالفضل والعرفان ،ففيه على أقل تقدير واحدا" قد أتم حفظ القرآن على يديها ،كأنها كانت المدد الحى لنور الله فى بيوت عباده ،وتصحو القرية على غير عادتها ،يهيمون فى الطرقات هرولة فى ساعة تباشير الفجر الأولى ،كان مكبر الصوت ينادى (لا إله إلا الله ،محمد رسول الله ،إنا لله وإنا إليه راجعون ،توفيت إلى رحمة الله تعالى، طيبة الذكر،الفقيرة إلى ربها ،الشيخة إحسان ،كل من عليها فان ،ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)،لم تشأ النسوة أن تغير موضعها ،بل تركنها كما هى على ذات الوضع ،كانت تصلى لبارئها صلاة الفجر،وقبضت روحها الطاهرة وهى فى وضع السجود،كانت أمنيتها الكبرى وقد نالتها عن جدارة وإستحقاق ، فما كان لله دام واتصل ،وماكان لغير الله إنقطع وانفصل ،بعد ليلة العزاء التى توافد عليها مشاهير القراء حبا"لها وسيرتها العطرة ، وكانت المفاجأة الكبرى ،أن يتقدم فتية آمنوا بربهم من صغار السن الذين تتلمذوا على يديها ، يتلون الآيات واحدا" تلو الآخر فى مشهد إنتزع من القلوب آيات الإعجاب والإبهار ،إنهم إمتدادها الحى ،فسبحان الحى الذى لايموت ، قرر أهل قريتها أن يشيدوا لها مسجدا" جديدا" محل دارها يحمل إسمها تخليدا" لذكراها،ربنا إرزقنا حسن الخاتمة.

جميل استاذ حمدى و مبروك فوزك
تستحق

الاخت القديرة/بنوتة مصرية
اشكرك على المتابعة والقراءة والتهنئة
تقبلى منى تحياتى وتقديرى