وسقط الفارس 1

- أسمك (نضال) ،أليس كذلك ؟
وقف الشاب وقفة عسكرية ثابتة أمام قائده في مكتب الأخير وهو يقول في صوت قوي :
- أجل يا سيدي
نظر إليه القائد متفحصاً جسده القوي وعضلاته المفتولة قبل أن يقول في صوت أقل حدة :
- يمكنك أن ترخي عضلاتك قليلاً يا بني لو أردت
لانت عضلات الشاب المشدودة قليلاً ولكن ظلت وقفته العسكرية ثابتة فعاد القائد يسأله وهو يستند إلي مسند احد المقاعد القليلة الموجودة بالحجرة :
- لماذا تطوعت للانضمام إلينا ؟
قال الشاب مجيباً في ثبات :
- تمنيت أن أنال أعظم جائزة في الوجود يا سيدي
نظر إليه القائد ملياً قبل أن يعاود سؤاله :
- وما هي الجائزة التي تنتظرها ؟!
- النصر يا سيدي ... أو الشهادة
رفع القائد التقارير التي كان يمسكها بين أصابعه ونظر إليه وهو يعاود النظر مرة أخري إلي (نضال) قائلاً :
- أن التقارير التي تم تقديمها من قبل رؤساءك جميعها تثبت أنك شاب فوق العادة تستطيع أن تفعل المستحيل في سبيل ما تؤمن به
ظل (نضال) صامتاً دون أن ينبس بأي كلمة فأستطرد القائد :
- وأنا أتمني أن يأتي اليوم ونجد كل فلسطيني يحمل قلبك وحبك للوطن وللقضية
صمت القائد لحظات قبل أن يقول :
- ولكن هل تعرف العدو الذي يجب أن تواجهه يا (نضال)
حملت ملامح (نضال) علامات الدهشة لحظات قصار قبل أن يقول في حيرة :
- أن عدونا معروف منذ الأزل يا سيدي
مال نحوه القائد وهو يقول :
- انه ليس العدو الوحيد الذي يهدد وجودنا يا بني
عاد (نضال) يقول :
- هل تقصد من يقف خلف الكيان الصهيوني والذين يمدونه بالسلاح و ....
هز القائد رأسه نفياً وهو يقاطع (نضال) :
- كلا ... ليس هذا ما أقصده علي الرغم من المفترض أن يكونا هما العدو الأول لنا ولأمة العرب ولكن هناك من هو أخطر منهما
صمت (نضال) هذه المرة وهو يعتصر عقله محاولاً الوصول إلي إجابة ولكنه فشل فأثر الصمت فعاد القائد يتراجع بظهره إلي الوراء وهو يقول :
- هناك سوس ينخر من داخلنا ويسعى جاهداً لتدميرنا من الداخل وهذا هو ما يجب أن نواجه أول الأمر لو أردنا الانتصار بحق
انتصب (نضال) في وقفته وهو يعاود الحديث بقوة :
- أأمرني سيدي وسوف أنفذ ما تأتمرني به
أبتسم القائد في ثقة وهو يربت علي كتف (نضال) في قوة قائلاً :
- قريباً سوف تخرج مع بعض الرفاق إلي مهمة وأرجو أن تنجحوا في تنفيذها علي أكمل وجه
صمت (نضال) ولكنه بداخله كان ينتظر هذه المهمة والتي سوف تكون أول طريق له فيما وعد به والده قبل أن يلقي والده ربه
حينها ركع (نضال) علي ركبته بجوار جثة والده والذي أغتاله أحد جنود الاحتلال ،يومها لم تذرف عيناه الدمع كما فعلت والدته وشقيقه ولكنه أقسم بينه وبين نفسه أن يأتي اليوم وينتقم لوالده ولكل شهيد سقط برصاص قوات الاحتلال
والآن أصبحت تلك اللحظة قريبة
وأكثر مما توقع
*********************************************
الصمت والقلق والخوف ولا شئ سوي نظرات الأب والأم عبر زجاج النافذة إلي الطرقات الخالية بقرية بأحدي قري الجنوب في الأراضي المحتلة ، كان هذا منذ أكثر من خمسة وعشرون عاماً ... ومازال (نضال) يذكر هذا اليوم كأنه يراه ماثلاً دون أن يغفل منه شئ ، كان يختبئ في أحد أركان المنزل مع شقيقه الأصغر حيث كان محظوراً عليهما الاقتراب من النوافذ أو الباب
بالأمس فقط غادر أخر رجل من رجال المقاومة القرية تحت ستر الظلام مشيعاً بالدموع والترقب المخيف للغزاة القادمين أستيقظ أهل القرية مع أول خيط لضوء الفجر هذا لو عرف النوم طريقاً إلي جفون أهل القرية ، كان زئير السيارات والدبابات يأتي من بعيد كهزيم رعد لا ينقطع ، نظرات الأب والأم تتطلع إلي حيث الطابور القادم من خلف التل كوحش كاسر وصوت أقدام الجنود تقترب مع كل دقيقة تمر وحركة أبيه وهو يذرع الحجرة جيئة وذهاباً وشحوب والدته وهي تشير إلي مدخل القرية فإذ هي قد حوصرت من كل اتجاه
وتذكر (نضال) الصبي ذلك الاجتماع الذي شمل والده وثلاثة من قادة رجال المقاومة وقد أجمع رأيهم علي أن ينسحب أفراد المقاومة من القرية فبقائهم بها يعني الموت المؤكد ووافقهم (أبو نضال) ولكنه في ذات الوقت أصر علي أن يبق هو بالقرية ولا يغادرها فأستنكر أحد الرجال الثلاثة قوله وهو يقول :
- كيف هذا ..أنت تعلم انك أكثر الرجال الذين يطلبه الصهاينة
هز (أبا نضال) رأسه بالنفي وهو يقول :
- لا أستطيع أن أترك أهل بيتي وأهرب
فقال أحد الرجال :
- فلنأخذ ولداك وزوجتك معنا
تقلصت ملامح (أبا نضال) وهو يقول في حزن :
- أن (نضال) مريض ولن يقو علي الحركة سوف يعوق حركتنا
عاد الرجل يقول في إصرار :
- أذن لا حل أخر، فلنبق جميعاً نزود عن قريتنا حتى أخر قطرة دم لدينا
نظر أليه (أبو نضال) وهو يهتف في قوة :
- لا مجال للعواطف في العمل يجب أن ترحلوا مع أول خيوط الظلام فمن المفترض أن يصل الإسرائيليون غداً صباحاً
قالها في صرامة وهو ينهي المناقشة وأستطرد وهو يقترب من أحد الرجال الثلاثة وهو يضمه إلي صدره في قوة :
- أتمني أن نلتقي مرة أخري يا (أبا عمار) ولكن أذا لم يحدث فعدني بأن المقاومة سوف تستمر وتقوي وانه لن يأت اليوم ويختلف به الأخوة وان يظلوا دوماً قلب واحد
ردد ورائه (أبا عمار) قائلاً :
- أعدك يا أخي انه ما دمت أنا حياً لن يختلف الأخوة ولن تموت القضية
أبداً
********************************
كان اتفاقهم أن يتركوا الشوارع خالية للغزاة القادمين ومن الخارج أرتفع صوت حاد يتحدث عبر مكبر بلغة لم تفهمها والدته ورأي والده ينصت باهتمام وقد شحب وجهه شحوباً رهيباً وأنتهي النداء فأذا بالأم تسأل زوجها عما يقوله صاحب الصوت فأذا بوالده يقول في غضب :
- أي جنون هذا ؟!
- ما الذي يطلبه الإسرائيليون يا (أبا نضال)
عاد (أبا نضال) يقول في غضب هادر :
- أنهم لا يطلبون ولكنهم يسألون إذا كنا سوف نقاوم أم أننا سنستسلم
حاولت الأم تهدئه زوجها وهي تقول في رفق :
- أليس هذا من حقهم ؟
- أي حق هذا والشوارع خالية وكل الأبواب موصدة
أختنق صوت (أبا نضال) وأحتقن وجهه وهو يقول :
- أنه الإذلال .... أنهم يريدون إذلالنا
عاد الصوت يتردد في سماء القرية مرة أخري فصاح (أبا نضال) :
- أنه يسأل مرة أخري ... أنه يعيد السؤال
هتفت الأم في فزع :
- لما لا نعطهم ما يريدون ؟
ألتف الرجل نحو زوجته ونظراته تطلق حمماً فصاحت زوجته ملتاعة وهو تشير نحو ولداها:
- من أجل الصغار ... من أجل كل الصغار في القرية .... ألم تبق من أجلهم !
هم (أبا نضال) بالإجابة ولكن نظرة منه نحو النافذة فإذ به يتصلب كمن مسته صاعقة فبدا جاحظ العينين شاحب الوجه مرتجف الملامح فاندفعت زوجته نحو النافذة في هلع وهي تهتف :
- ماذا هناك يا (أبو نضال) ؟
وما أن ألقت بنظرها خارج النافذة حتى ارتدت شاهقة وهي تقول :
- أن الأهالي يرفعون علماً أبيض فوق منبر المسجد
عاد الصوت يصيح مرة أخري عبر المكبر من جديد فقالت الزوجة في صوت مختنق :
- ماذا يقول هذا اللعين ؟
ترنح (أبا نضال) في وقفته وخطا نحو مقعد وألقي بجسده فوقه وهو يقول :
- أنه يطلب أن يرفع كل بيت علم أبيض علي باب داره
ارتدت الزوجة في سرعة نحو دولاب في أحد أركان المنزل وهي تهتف :
- فلنعطهم ما يريدون
كان (أبا نضال) يتمتم :
- انه الإذلال .... انه الإذلال
في هلع كانت زوجته تبحث في الدولاب حتى أخرجت منه مفرشاً أبيض اللون وفردته أمام زوجها الذي رفع رأسه اليها وقد أحمرت عيناه وأنت هي تقول في توسل :
- ليس من أجلنا ولكنه من أجل الصغار
ونكس الرجل الشاهق رأسه وأهتز جسده في عنف وتساقطت دموعه
يومها كره (نضال) نفسه ... كره شقيقه
شعر يومها انهما السبب في أن يسقط الفارس من فوق فرسه وان يركع العملاق أمام جبناء لا يستحقون
وعلي الرغم من أن أهالي القرية قد نفذوا ما طلبه جنود الاحتلال ولكنهم لم يمر النهار ألا وقد ألقوا القبض علي كل رجل بالقرية
وأرتجف جسد (نضال) الشاب وهو يجلس في حجرته بالمعسكر وهو يتذكر صوت طلقة رصاص
ووالده يسقط صريعاً تحت اقدام جنود الاحتلال
ولكنه ظل بداخل (نضال) صورته تنمو وتزداد قوة
تـــــتـــــــبــــــــع

شكرا للعمل الجميل
و الذى اسعدنى

تحية لنبضك الجميل أيها الرائع
خالص ودي

شكرا للقصة الجيدة و التى تتكلم عن القضية الفلسطينية

فى أسلوب سردى جيد