حماتى هى أبى

يواصل الهاتف المحمول رنينه كلما توقف ،كان يؤدى فريضة المغرب ،حينما فرغ أسرع فى عجالة للرد على المتصل ،كانت على الطرف الآخر زوجته بمحل إقامتهما ،كنت أتابع تغير قسمات وجهه بينما هو يتعجل التفاصيل ،ينهى المكالمة ويهبط كحجر ثقيل على أقرب مقعد ،القلق يتزايد وهذيانه مع نفسه بصوت واضح جعلنى أتدخل فى الامر، قال (أمى تعانى من مبادىء جلطة بالدماغ ،لكن الطبيب قال إنه العصب الخامس من لفحة برد شديدة أدت الى إنحراف الفم مع تسايل اللعاب منه ،ولا أدرى كيف التصرف الآن ) ،كنا نقيم بشقة بأحد أحياء المدن الجديدة على مشارف القاهرة بحكم ظروف عملنا ، هو شقيق زوجتى وأمه هى حماتى ، عادت بى الذاكرة الى ظروف وملابسات مرض والدى رحمه الله ، تلاحقت الصور وتتابعت أمام عيناى ، تساقط الدمع دون أن أدرى ،أن ترى والدك فريسة للمرض لايملك معه حراكا"،غارقا"فى بوله متكئا" بيمينه على سجادة بجوار فراشه ، تسأله ماذا حدث فلايجيب سوى بنظرات حائرة كانت أبلغ من أى إجابات ،ذلك الرجل الذى لم يدخن فى حياته سيجارة واحدة ، المحافظ على صحته بالاعتدال فى الطعام ،والممارس لرياضة المشى بصفة يومية ، كانت صدمة عنيفة بالنسبة لى أن أراه طريح الفراش بغرفة العناية المركزة يغط فى نوم عميق تتدلى من يديه أنابيب مطاطية تحمل سوائل الحياة اليه ، تمنيت أن يستفيق وينظر الىّ لترتاح عيناى المسلطة على وجهه يفصل بيننا حائط زجاجى شفاف ، كنا فى منتصف الشتاء ، والبرد يعصف بى ، كانت تنهار قواى من الوقوف لفترات طويلة ،أفترش أرض الردهة الطويلة للعناية المركزة بصفحات جريدةالاهرام من تحتى ، تحدثنى نفسى بأن الفرج قريب وأنه سيخرج الآن طبيب العناية ليقول لى أن والدى قد أنهى فاصل النوم المستمر وأنه جالس الآن على فراشه يستدعينى للقياه ،كنت أسبح فى بحر أفكارى وأحلامى ، نتبادل المواقع أنا وأشقائى بين الصحو والمنام ،تتابع الايام حتى وصلنا الى اليوم السابع والعشرون ،تخرج ممرضة شابة تعلو وجهها ابتسامة وضاءة تتهلل بشرا"قائلة"(لقد أفاق والدك من غيبوبته وهو الآن يعبث بستائر فراشه وأريد الحلاوة ) ،قفزت الى داخل العناية الى حيث أبى ،وجدته يتأمل المكان بعناية وإندهاش واضح ، كانت آثار النوم الطويل بإفرازاتها على جفنيه ،بللت قطنة بالماء ونظفت الرموش والجفنين مع مقاومة منه ، كان يعبث بذفنه التى إستطال شعرها ،أحس بضيق شديد منها ، عرضت عليه أن أحلقها له فهز رأسه بالايجاب ، كانت قمة سعادتى ليس بالافاقة فقط ولكن وأنا أحلق له ذقنه ، لم تتحسس يدى وجنتيه بهذه الصورة من قبل ، بدا ووجهه أكثر إشراقا" بعد الحلاقة ، أنحنيت لأطبع قبلة على وجنتيه الا أنه أستدار ليتلاقى الفمان ثغرا" بثغر ،وفى حركة لا إرادية يحتضن كلا" منا الآخر فى مشهد تمنيته من قبل مرارا"،لكنها هيبة أبى التى كانت تمنعنى من ذلك ، بعد محادثة تليفونية كانت كل الاسرة بجواره يبكون فرحا" على السلامة والنجاة ،كنت أعرف مسبقا" أنه لن يستطيع تذكر الاسماء مرة أخرى ،فقد دمر النزيف خلايا الذاكرة للاسماء بتجلط الدم عليها ،لكنى حمدت الله على وقوفه على قدميه دون إعاقة تذكر ، ظللت بعدها طيلة سبع سنوات المترجم الشخصى لما يريد أن يقوله لنا ،كان يعرف كل شىء الا أنه لايستطيع أن ينادى أى شخص بأسمه ، تذكرت كل هذه الاحداث فوقفت مكانى أجرى بعض الاتصالات التليفونية مستوضحا" ساعة المرض وكم مضى عليها من ساعات ،لانها أعراض جلطة الرأس ،يطمئنى كل من تحدثت إليه ، سألنى شقيق زوجتى مالعمل مرة أخرى؟؟ ، قلت له علينا الذهاب فورا" لنقرر ماذا نفعل فالوقت يمر وهو العامل الحاسم فى مثل هذه الحالات ،وليس من سمع كمن رأى ) نستقل السيارة لتنطلق بنا قاطعة صخب الليل بضجيجه تسابق الريح ،ولا أعرف كيف أحببت حماتى بتلك اللحظة عن ذى قبل ، حين تتطابق الصور لحدث من الحياة مر بك تسقط الاسماء ويبقى الحدث عالقا" بالذاكرة ،ترانى كنت صادقا" حين قلت أن حماتى هى أبى ؟

الاخ/ حمدى
احييك على هذا الربط الجميل الذى سيسعد الحموات كثيرا
وستحصل على الكثير من الدعوات منهن
دام ابداعك وتقبل وافر التحية

الاستاذ الفاضل الاديب/احمد اسماعيل
سعيد جدا" بتواصلك معى وتأكيدك الدائم للهدف العميق من السرد ،تترائى لكل منا صور وأحداث ،وما علينا سوى أن ننقل الواقع كما بدا فى الصورة،لحظة الصدق الانسانى هى لحظة يجب أن تسجل ،ما أنا إلا هاو" لتسجيل الاحداث .
تحياتى وتقديرى ومودتى

المهندس والاديب الكبير/ممدوح عزت موسى
المشرف الرائع للقصة القصيرة
تحياتى وتقديرى واحترامى لك ،وأشكرك كثيرا" على متابعتك لاعمالى ،وكم أود أن نلتقى لتعميق أواصر الصداقة بيننا ، ربما يكون الخط العام لكتاباتى هو تأصيل القيم النادرة والرائعة التى تكاد أن تندثر مع الايام .
تحياتى وتقديرى واحترامى