" اغتيال البرية"
قصة : محمد باقي محمد
هكذا أمضى علي ليلته في البرية!
امتداد أشهب شال أمام العينين أفقده الرؤية للحظات، ثمّ التمعت عيناه كجذوتين مرّة تلو الأخرى، وهما تجوسان بين السنابل المبعثرة المتكسّرة والقش المتقصّف، وأنشأ المحيط يغوص في سكون مريب ومخاتل، يخفي في طيّاته إحساساً ضاغطاً بأنّ السماء تخذله!
لم يكن يريد للظلام أن يطمس رؤيته للأشياء، بيد أنّ الليل تقدّمَ من غير أن يلوي على شيء، فلم يُفسح المجال لرؤية الشفرات الرهيفة التي راحت تمور في الجوف، وأكثر فأكثر أخذ الظلام يدلهمّ ويُغلق الأمداء!
لا بأس!
راسخاً كجبل صغير في مكانه كان، وكلّ المحاولات التي رامت اقتلاعه منه باءت بالإخفاق، " البكّارة" حاولوا أن يُزيحوه عن دربهم، لكنّهم فشلوا، ومرّ به " الشمّر" مُتقهقرين من غير أن تهتزّ في بدنه عضلة، بدورهم تفاجأ " الكيكيّون" بعناده، وإصراره على البقاء فوق هذه البقعة الحبلى بالتوقعات، ولم يُفلح " الشرابيّون" في إجباره على النزوح عنها، على الرغم من غاراتهم المُتكرّرة!
والآن!
ها هو جاثٍ على ركبتيه، مُقارباً حواف جروحه الداخليّة، يعتسفه إحساس حاد بأنّ أمانيه تنأى!
فهل كان يُصلّي!؟
لقد ترك الصلاة منذ أمد..
إذن! فماذا كان يفعل هناك، عند تخوم الأرض المزروعة بالعرق والقمح والدم!؟
* * *
هلمّ إلى الوجه!
صعب أن تضع عينيك في عيني عليّ، وتنسى وجهه، شتان بين الوجه الشاب المُمتلىء، الذي تختزنه في ذاكرتك، والوجه الممصوص المُتطاول الذي يُطالعك الآن، ولكنّ الحزن الُمُستوطن في العينين يربطهما بخيط لا يُرى، أليس كذلك!؟
لا شيء غير عاديّ.. لا فواصل.. لا علامات فارقة، اللهمّ خلا نقطة الدم التي استوطنت بياض عينه اليمنى ظهيرة صيف قائظ، أمضاه عليّ برفقة منجله الصدىء وسط حقول القمح الصفراء!
قصيراً كنبتة قمح في سنة جديبة كان! هذا ما توّد أن تقوله، لا عليك! ثمّ ماذا بعد!؟ سقطة صغيرة عن النورج الذي مرّ على القدم، وعصب مقطوع أو معطوب في مكان ما ، وشَمَ العمر المُتبقي بعرج خفيف!
هو لا يأبه بمظهره كثيراً، لذلك فإنّ ثوبه الكالح مُفعم دائماً برائحة عرقه القويّة، بينما تُظهِر سترته حشيتها عند الإبط، لكنّ هذا لا يهمّه ما دام الأطفال يجدون ما يأكلونه، فالرجال مخابر لا مناظر!
مستورة والحمد لله! كان يقول..
وتمرّ الأيام قلقة، مُمرضة ومُرمضة، لكنّها كانت تمضي!
هذا كلّ شيء!
فلماذا أمضى ليلته في البريّة!؟
لماذا تهاوى على ركبتيه عند تخوم الأرض المزروعة بالعرق والدم والقمح!؟
هل كان مفتوناً بغروب الشمس على أفق شجرة اللوز اليتيمة!؟
بيد أنّ الليل الدامس كان قد هبط، ومعه تغلغل في الأفق برد غير مُتوقع في مثل هذا الوقت من نهايات أيار!
فماذا كان يفعل هناك!؟
* * *
تعالوا إلى المبتدأ!
هوذا طفل تتبعه أسماله، يركض في أثر أهله الذين نزلوا بالمكان، وحفروا فيه بئراً، وأشادوا دوراً من الطين، ثمّ استصلحوا الأرض للزراعة، وبلا استثناء راح الجميع يبذلون ما في وسعهم لاستنباتها!
فهل يدخل انتظار السماء الضنينة في حساب الجهد!؟
عاماً إثر عام كانت العيون المُطفأة بالتوقّع تنطر الأفق الغربيّ، تتسوّل مطراً يعزّ! وبقلوب واجفة كانوا ينتظرون سماء لا تجود إلاّ كلّ حين، وما تكاد اللقمة تتسلّل إلى الأفواه، حتى تليها سنة مُمحلة أو أكثر!
إيه! ما ضاقت إلاّ وفرجت!
وتبقى الصدور صناديق مُرتجَة على هواجسها وأحلامها، غير أنّ القامات الناحلة، والخطو الواهي، والوجوه الشاحبة تُفصح، وعلى الرغم من أنّ علياً يعمل مثلهم بهدوء، إلاّ أنّ الصمت يفيض أحياناً بصاحبه!
والصمت - يا صاح - نوعان، عاجز وحكيم!
فأين تُصنّف صمت عليّ!؟
وهل تكفي سنة جديبة لإركاع رجل مثله عركته الأيام على تخوم البريّة!؟
هل كان ينتظر امرأة ما!؟
إنّه الآن في الخامسة والخمسين، وفقرات العمر تناثرت خلفه والصبوات!
فماذا كان يفعل عند حدود العراء المزروع بالعرق والدم والقمح!؟
* * *
مُتعجلّون أنتم !
والحياة تمتد..
والحكاية تطول..
فأيّ زواج تنتظرون لشاب توالج اليتم في نسيج عمره غير هذا الزواج، بعد أن قُتل أبوه فوق بيادر القرية بيد اليزيديّّين!؟
فجأة جاؤوا..
وفجأة رحلوا..
وما بين مجيئهم ورحيلهم، انفلتت أغنامهم نحو الأرض المزروعة، ولمّا اعترضهم أبوه قتلوه، وما تحرّك في القرية ساكن!
ضاعت النخوة يا ناس!
انفجرت أمّه بالصراخ، وهي تُهيل التراب على رأسها، لكن الميل إلى الاستقرار وإيثار السلامة كانا قد تسلّلا إلى الأفئدة، فأبوا الإنصات إلى صوتها، وذهب دم أبيه هدراً!
فهل نُناقش رجلاُ عايش ظروفاً كهذه في زواجه!؟
أيّ ضير إنْ كانت زوجته تكبره بسنتين أو ثلاث!؟ أليست مطبوعة على الجَلد والرضى والانكسار!؟ أليست امرأة صحيحة مجبولة بالستر والقناعة!؟ ثمّ ها هُمُ الأولاد يكبرون، فينوء بهم كاهله عبر السنوات الشحيحة!
الفقر هو الذي يجعل حياتنا طويل ومُملّة!
هذا ما كان عليّ يُردّده دوماً!
الفقر كفر! أليس هذا ما قاله ابن أبي طالب!؟
إذّاك واهية تُمسي ذكريات الطفولة ومُتقطّعة!
إيه! عمّا أحدثكم !! هذه الأرض شافت الكثير، ودبّ عيها الكثير! عنها دفعنا القبائل بالدم والنار، إلاّ أنّ الحكومة أعلنت - في ما بعد - بكلّ بساطة، أنّ أراضي القرية أملاك للدولة!
لماذا!!!؟
لأنّها بائرة بالتصوير الجوّي!
ومن الأقوى يا صاح!؟ من الأقوى!؟
أنتم تعرفون كيف انتهت احتجاجات عليّ على أيدي رجال الشرطة الذين لا يرحمون، ولكن لماذا اليوم بالذات أورقت الأخيلة في أصل من الذاكرة، وانتضيت الأسئلة مُتتالية كطعنات جارحة!؟
باندحار في زرقة السماء شعر حين تضاءلت أرضه لصالح آخرين، إثر زيارة لجنة أملاك الدولة للقرية! وضحك كثيراً عندما اكتشف بأنّه لم يكن الوحيد الذي دفع لها رشوة!
وشرّ البليّة - يا صاح - ما يُضحك!
أما آنَ لنا أن نرتاح!؟ السماء، والبَرَد، وريح الشمال الكافرة، رجال الشرطة، العمر المُتصرّم، والأولاد الذين تكاثروا كالأرانب، والزمن الذي لا يرحم، أليس هذا كثيراً!؟
هوّن عليك يا رجل!
طال الصبر يا ناس! فهل تريدون كلّ الناس على شاكلة النبي أيوب!؟
ألهذا سقط جاثياً عند تخوم البريّة!؟
هو لم يُضيّع شيئاً ليبحث عنه هناك، فلماذا تداعى بهذا الشكل فوق الأرض المزروعة بالعرق والقمح والدم!؟
* * *
لا أنتم تكفّون عن السؤال!
ولا علي يُجيب، فلا تلحوا!
هو صامت لأنّ الأمور خارجة عن إرادته، فاحتفظوا بهذا في ذاكرتكم، ولا تلحّوا!
قالوا له : بشراك عليّ، هي الريح قد هبّت، فاستبشر خيراً، وما تغيّر الحال!
قالوا : الإصلاح الزراعيّ قادم، فابتسم من غير أن ينبس ببنت شفة!
وقالوا: هي الجمعيات التعاونيّة التي ستؤمّن لنا ما نحتاجه من بذار وسماد، فتتالت الفصول في الذاكرة، للمُختار
فصل من الكراهية مجبول بالقرف، ولرئيس المخفر فصل من الخوف، ضارب في منابت النفس، ولمُوظفي الإصلاح والمصرف الزراعيّ ومُؤسّسة الأعلاف فصل من الرهبة والانكسار، ولمكتب الحبوب ورئيس الجمعيّة فصل من النفور والاشمئزاز الأعزل!
وعندما اقترح أحدهم الحلّ: نحفر بئراً، وكل شيء يتبدّل بإذن الله!
انتصب فاصل التردّد في بقاع النفس، فهو لا يتحصّل على بيان بمساحة الأرض المُؤجّرة له إلاّ بطلوع الروح، بيد أنّ الفكرة راحت تحفر في رأسه آناء الليل والنهار، إلى أن نضجت، فما توانى في تقديم الطلب، وأوْلمَ لمُوظفي اللجنة خروفاً صغيراً، من غير أن ينسى الفاكهة والدخان!
والآن!!؟
قالوا : ثمّة لجنة من الهندسة الريفيّة، وأخرى من الخدمات الفنيّة، ومرّة ثانية ضحك عليّ، ثمّ ألقى بالموضوع كلّه في زوايا الإهمال!
أرجىء أمانيك النائيات إلى الحياة الآخرة - قالوا له - ولك الجنة!
وساخراً ربّما، وربّما جاداً أجاب :
أريد جنتي على هذه الأرض!
فهل كان عليّ يحتجّ على حمرة الأفق، وهو جاث على ركبتيه!؟
ولماذا اعتقله الليل خارج حدود القرية، عند تخوم الأرض المزروعة بالعرق والدم والقمح!؟
* * *
تعالوا إلى التفاصيل!
مسكوناً بالمرارة وانعدام القدرة على الفهم، راح عليّ يتأمّل القرية التي خوت من سكّانها أو كادت! إذْ أخذ أهلوها ينزحون نحو المدينة، بدءاً بتلاميذ المدارس الذين شدّوا الرحال إليها للتعلّم، وانتهاءً بالأهل الذين لحقوا بأبنائهم!
الأقارب والأصحاب والجيران والخلان كلّهم انسربوا على الدرب نفسها، وخلّفوا علياً للتوزّع والوحشة وخلاف الأضداد، ولم تنج عائلته من البليّة، إذْ طالت أولاده واحداً واحداً، وحينما قصدهم ذاهلاً، راغباً في الفهم، لم يستطع أن يتعامى عن الطوابير الطويلة الواقفة في انتظار الخبز والغاز والسكّر والشاي وخلافه! فالتفت إلى أولاده..
ولكن لماذا يا أولاد!؟
لا عليّ يفهم فيرتاح، ولا الأبناء يُجيبون!
الحجرة في مكانها ثقيلة يا أولاد!
ولكن ما من مُجيب يردّ لدم عليّ المُصاب بالانقسام قوامه، إذْ ها هو الخسران يتتبّع خطواته، يُحاصره، يمهر فصول العمر بميسمه..
إيه! خاسر أنت ومخذول! مغبون! ليس الآن فحسب، بل في كلّ الآونة! ألم ترَ إلى حارس مكتب الحبوب يسرق القمح من أكياسك عند الفجر!؟ ألم تقف ضحى اليوم بين يدي الخبير، الذي قدّر " جراماً" عالياً في محصولك!؟ وجاءك العتالون مُطالبين بالضعف، فاتقدت الحجارة من حولك، ثمّ أغلق سائق الشاحنة الدراة مُطالباً بأجر كبير عن الحمولة!؟
ألهذا تصبّب العرق من جبينه والعنق، وهو يُسر لصاحبه بحنق :
نحن نُسرَق يا صاحبي.. نُسرَق!
ثمّ غمغم لنفسه : إذا لم يكن لنا في أولادنا خير، فكيف بالناس!؟
ألهذا طالب الشهب بأن تسّاقط على صدر الأرض وبطنها!؟
هل كان عليّ يبكي الراحلين عن القرية عند حدود البرية!؟
أم أنّه كان يبكي تعب السنة المهدور، جاثياً فوق تخوم الأرض المزروعة بالعرق والقمح والدم!؟
* * *
عصراً كان الوقت..
وشمس أيّار تتهادى نحو المغيب واهية وانية..
فجأة اختلّ انتظام الطبيعة الممعن في حصار مخلوقاتها، فأترع المدى بزوبعة قادمة من الجنوب الغربيّ!
وفجأة لمّت الغيمة السوداء أركانها، من غير أن يدري أحد من أين!
وفجأة غزت السماء الأرض بكلّ جبروتها، فراحت الريح الزعزع تزأر وتثور، بينما انهالت زخات غزيرة من قرب مبقورة، ما لبثت أن تحوّلت - بين دهشة القرويّين وحيرتهم - إلى بَرَدٍ، فما كان أمام السنابل الصفراء الذاهلة إلاّ الاندياح، والتناثر فوق الأرض الموحلة، وبدا المشهد أقرب ما يكون إلى ساحة معركة طاحنة!
فكيف يزفّ عليّ عروس ابنه الأصغر بعد الموسم!؟
ومن أين يدفع لأهلها بقيّة المهر!؟
بل من أين يدفع لدائنيه تكاليف الخطبة، ناهيك عن ديونه الأخرى!؟
سقط على ركبتيه بعد عودة الفلاحين إلى بيوتهم، وأخذت عيناه تجوسان بين سوق القمح المُتقصّفة والسنابل المُتناثرة!
فهل كانت عيناه تستوعبان المنظر كلّه!؟
هل كان عقله يدرك حجم الكارثة!؟
إذن! لماذا لم تنجح الزفرة المُشتعلة في الإفلات!؟
ولماذا بقيت الدمعة المُتهيئة للاندياح فوق الوجنة الناتئة مُعتقلة بين كرة العين والجفن!؟
لماذا تسمّر على هذه الشاكلة، بينما أنشأ الليل يزحف، ويسدل ستاراً مُعتماً على الكائنات!؟
ولماذا انكفأ على وجهه، فيما غاصت يده عميقاً في التربة الموحلة، وأخذت تعتصر التراب المبلول والقشّ المُتقصّف!؟
ومن أين جاء كلّ هذا المطر، الذي راح ينث فوق القرية طيلة الليل!؟
هل كان هذا المطر يبكي موت عليّ!!!؟