حدوته من زمن فات

هِزْ كتفه كده يابني ليكون السر الإلهي طِلِعْ ..
قالها عم حلمي – البقال – بصوته الأجش وهو ينفُث دخان الشيشة الكثيف فتخرج عباراته مختلطة بالدخان صوت وصورة كأنها خارجة من فوهة بركان متقطع موجها حديثه إلى صبي القهوجي وهو يصب فنجان القهوة لعم سرور .. ثم مايلبث أن يطلق ضحكة عالية تذكرنا بالعفريت وهو يتسرب خارجا من القمقم ولكن كالعادة تنقطع الضحكة قبل أن تكتمل ويبدأ فاصلا من الكحة ..
كان عم سرور علامة يُستدل بها على موقع المنزل الذي أسكن فيه .. يأتي من بعد صلاة الفجر .. يفرد كرسيه الخشبي الصغير تحت شرفتنا .. يُخرج عدته من كيس مصنوع من القماش السميك .. ويضع قطعة من القماش الأبيض على رجليه .. يلتف زبائنه حوله وهم وقوف يتابعون بإعجاب دقته ومهارته في الكتابة على الخواتم الذهبية والأختام ، يُثبت الخاتم بواسطة قطعة خشبية وينقش عليه الأسماء وكل فترة يطوي قطعة القماش ويفرغ ماتجمع فيها من بقايا الذهب في علبة معدنية صغيرة .. يتحدث مع زبائنه بالإيماء .. نادرا ما ينطق ويظل هكذا منكبا على ما في يديه طوال اليوم بلا حراك ..
وقبل الغروب يطوي كرسيه الخشبي وينصرف حاملا عدته دون أن يلتفت إلى أحد .. ولكن عم حلمي لم يكن يتركه في حاله فما يكون منه إلا أن يرمقه بنظرة حادة ولا يرد عليه ..
كان عم سرور هو أملنا في الإنتقام يوما ما من عم حلمي وكنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ونؤكد لبعضنا البعض على أنه لن يصبر طويلا على هذه الإهانات التي يكيلها له وأن يوم الإنتقام لنا ولنفسه آت لا محالة .. فقد كان عم حلمي يمثل مصدر إزعاج كبير لي ولأصحابي .. كنت أعمل ألف حساب لمواجهته وأنا عائد من المدرسة .. أتحين الفرصة لدخول الشارع وهو داخل الدكان وإذا كان جالسا في الشارع كنت أراقب حالته المزاجية من خلال سنته الفضية التي كانت تلمع في الضوء عندما يضحك فأطمئن إلى أنه قد شُغل بأحد غيري ولكن عندما أمر من أمامه يناديني فأتسمر في مكاني فيربت على كتفي بشدة قائلا : أمازلت تلعب مع هؤلاء الشياطين ؟ ألم أُحذرك منهم ؟ ثم يعطيني قطعة الطوفي كرشوة فأدسها في فمي مطلقا لساقي العنان أنهب درجات السلم نهبا .. ألقي حقيبتي وأطلق صافرة عالية فيتجمع بقية الشياطين فوق سطح المنزل ومعنا مالا يقل عن عشر كرات شراب تحسبا لفقد بعضها من فوق السور حيث تسقط على فاترينة عم حلمي أو ثلاجة المشروبات فيصادرها أو يقطّعها بالسكين ويكيل لنا الشتائم والتهديد والوعيد ثم يتجرع جرعة من القلة القناوي يتمضمض بها كأنه يغسل لسانه من هذه الشتائم ثم يُطلق رشة من بين أسنانه تصل إلى حافة الكرسي الذي يجلس عليه عم سرور فيعاود الضحك كأن شيئا لم يحدث .. ونظل نترقب ردة فعل عم سرور ولا نفقد الأمل في يوم الإنتقام ..
في أحد الأيام كنت عائدا من مدرستي أتأهب لطقوس المرور من أمام عم حلمي ولكني وجدت الدكان مغلقا وظل هكذا لعدة أيام وفي أحد الأيام كنت عائدا من المدرسة فلمحت من بعيد عم سرور على غير عادته واقفا أمام دكان عم حلمي المفتوح وأولاده مجتمعين أمامه فأطلقت صافرتي حتى أجمع بقية الشياطين واندفعنا نحو الدكان على أمل أن يكون هذا هو يوم الإنتقام فوجدنا عم سرور والدموع تترقرق داخل عينيه وهو يُتمتم : مات الرجل الطيب ..

قصة جميلة ما شاء الله كاتبنا الكبير
أعجبنى اسلوبك القصصي جدا
تقبل مرور واحدة تحب القصة و الشعر

الوردة الحمراء كتب:: قصة جميلة ما شاء الله كاتبنا الكبير
أعجبنى اسلوبك القصصي جدا
تقبل مرور واحدة تحب القصة و الشعر

أشكرك على اهتمامك وتعليقك الذي أعتز به ..

الأستاذ الأديب القاص\ مجدي راشد
جميل جدا ما قرأته لك هنا
لديك اسلوب رائع في السرد
ومضمون الحكاية التى تنم عن طيب الاحساس وسماحة القلوب البيضاء
دام ابداع قلمك المميز ودمت بكل الخير

اسماء عبدالعزيز كتب:: الأستاذ الأديب القاص\ مجدي راشد
جميل جدا ما قرأته لك هنا
لديك اسلوب رائع في السرد
ومضمون الحكاية التى تنم عن طيب الاحساس وسماحة القلوب البيضاء
دام ابداع قلمك المميز ودمت بكل الخير

أشكرك ياأستاذة / أسماء على تعليقك الذي أسعدني .. هي حكاية من زمن جميل محفور في وجدان كل منا بطرق مختلفة ..
شكرا على مرور حضرتك ..

مجدي راشد كتب:: هِزْ كتفه كده يابني ليكون السر الإلهي طِلِعْ ..
قالها عم حلمي – البقال – بصوته الأجش وهو ينفُث دخان الشيشة الكثيف فتخرج عباراته مختلطة بالدخان صوت وصورة كأنها خارجة من فوهة بركان متقطع موجها حديثه إلى صبي القهوجي وهو يصب فنجان القهوة لعم سرور .. ثم مايلبث أن يطلق ضحكة عالية تذكرنا بالعفريت وهو يتسرب خارجا من القمقم ولكن كالعادة تنقطع الضحكة قبل أن تكتمل ويبدأ فاصلا من الكحة ..
كان عم سرور علامة يُستدل بها على موقع المنزل الذي أسكن فيه .. يأتي من بعد صلاة الفجر .. يفرد كرسيه الخشبي الصغير تحت شرفتنا .. يُخرج عدته من كيس مصنوع من القماش السميك .. ويضع قطعة من القماش الأبيض على رجليه .. يلتف زبائنه حوله وهم وقوف يتابعون بإعجاب دقته ومهارته في الكتابة على الخواتم الذهبية والأختام ، يُثبت الخاتم بواسطة قطعة خشبية وينقش عليه الأسماء وكل فترة يطوي قطعة القماش ويفرغ ماتجمع فيها من بقايا الذهب في علبة معدنية صغيرة .. يتحدث مع زبائنه بالإيماء .. نادرا ما ينطق ويظل هكذا منكبا على ما في يديه طوال اليوم بلا حراك ..
وقبل الغروب يطوي كرسيه الخشبي وينصرف حاملا عدته دون أن يلتفت إلى أحد .. ولكن عم حلمي لم يكن يتركه في حاله فما يكون منه إلا أن يرمقه بنظرة حادة ولا يرد عليه ..
كان عم سرور هو أملنا في الإنتقام يوما ما من عم حلمي وكنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ونؤكد لبعضنا البعض على أنه لن يصبر طويلا على هذه الإهانات التي يكيلها له وأن يوم الإنتقام لنا ولنفسه آت لا محالة .. فقد كان عم حلمي يمثل مصدر إزعاج كبير لي ولأصحابي .. كنت أعمل ألف حساب لمواجهته وأنا عائد من المدرسة .. أتحين الفرصة لدخول الشارع وهو داخل الدكان وإذا كان جالسا في الشارع كنت أراقب حالته المزاجية من خلال سنته الفضية التي كانت تلمع في الضوء عندما يضحك فأطمئن إلى أنه قد شُغل بأحد غيري ولكن عندما أمر من أمامه يناديني فأتسمر في مكاني فيربت على كتفي بشدة قائلا : أمازلت تلعب مع هؤلاء الشياطين ؟ ألم أُحذرك منهم ؟ ثم يعطيني قطعة الطوفي كرشوة فأدسها في فمي مطلقا لساقي العنان أنهب درجات السلم نهبا .. ألقي حقيبتي وأطلق صافرة عالية فيتجمع بقية الشياطين فوق سطح المنزل ومعنا مالا يقل عن عشر كرات شراب تحسبا لفقد بعضها من فوق السور حيث تسقط على فاترينة عم حلمي أو ثلاجة المشروبات فيصادرها أو يقطّعها بالسكين ويكيل لنا الشتائم والتهديد والوعيد ثم يتجرع جرعة من القلة القناوي يتمضمض بها كأنه يغسل لسانه من هذه الشتائم ثم يُطلق رشة من بين أسنانه تصل إلى حافة الكرسي الذي يجلس عليه عم سرور فيعاود الضحك كأن شيئا لم يحدث .. ونظل نترقب ردة فعل عم سرور ولا نفقد الأمل في يوم الإنتقام ..
في أحد الأيام كنت عائدا من مدرستي أتأهب لطقوس المرور من أمام عم حلمي ولكني وجدت الدكان مغلقا وظل هكذا لعدة أيام وفي أحد الأيام كنت عائدا من المدرسة فلمحت من بعيد عم سرور على غير عادته واقفا أمام دكان عم حلمي المفتوح وأولاده مجتمعين أمامه فأطلقت صافرتي حتى أجمع بقية الشياطين واندفعنا نحو الدكان على أمل أن يكون هذا هو يوم الإنتقام فوجدنا عم سرور والدموع تترقرق داخل عينيه وهو يُتمتم : مات الرجل الطيب ..

المبدع / مجدى راشد

لوحة متقنة تدب فيها الحركة ، و أناس طيبون بسطاء و لى زمانهم الطيب ...
تصور ! حاولت ــ ذات مرة ــ أن يفهم ابنى الذى ناهز السادسة أو يتخيل " الكرة الشراب " فكانت الدهشة المرسومة على وجهه تماثل دهشتى و أنا أتجول على دراجتى النارية فوق أحد الكواكب خارج مجموعتنا الشمسية مراقبا كائناته و هم يلعبون " الغميضة " !
دمت مبدعا طيبا.

المبدع الجميل أستاذ محمد صيام
فعلا هذا الزمن الجميل هو قطعة من وجدان كل واحد فينا ، لقد تشكل جزء كبير من شخصيتنا داخل الحي الذي نشأنا فيه ، أما أولادنا فقد تشكلت شخصيتهم داخل البيت وأمام وسائل الإعلام .. أدعو الله أن يحفظهم جميعا ..
أشكرك على هذا التعليق الذي أسعدني ..

أستاذي وصديقي الحبيب
القاص المبدع دكتور/ مجدي راشد

كعادتك يا سيدي تجمع للترحال عبر الحرف كل أسباب البلوغ ، هاهنا كما هناك حيث ننتظر تباشير الحكي منك لم يتغير شئ الححميمية والصدق فقط أفتقد هنا عشاء الخال المبدع مجدي شحاتة وصولات الفارس عماد قطري وتجليات المبدع الدكتور هشام السحار وكل فرسان لقاء الخميس في مدينة الرياض

تحياتي وتقديري

محمد حجازي كتب:: أستاذي وصديقي الحبيب
القاص المبدع دكتور/ مجدي راشد

كعادتك يا سيدي تجمع للترحال عبر الحرف كل أسباب البلوغ ، هاهنا كما هناك حيث ننتظر تباشير الحكي منك لم يتغير شئ الححميمية والصدق فقط أفتقد هنا عشاء الخال المبدع مجدي شحاتة وصولات الفارس عماد قطري وتجليات المبدع الدكتور هشام السحار وكل فرسان لقاء الخميس في مدينة الرياض

تحياتي وتقديري

صديقي القريب إلى قلبي أستاذ / محمد حجازي .. فارس النيل النبيل ..
لا تتصور مدى سعادتي بانضمامك إلى هذا المنتدى الجميل ..
أنا في انتظار همساتك وصولاتك في أروقة هذا المنتدى الراقي ..

» حدوته من زمن فات
» حدوته
» حدوته
» حدوته من 3 قصائد
» حدوته ... أحمد سعيد موسى