وسم الدكتور صلاح صالح مقالته المنشورة في العدد /710 / من ملحق الثورة الثقافي ، بتاريخ / 28أيلول 2010 ، بـ " المرجعيّة والنبذ " ، وفيه ما فيه من تضاد لافت ، ربّما لأنّه أراد أن يُثير فضولنا نحو متنه ، ليدفعنا إلى قراءته بقصد استجلاء كوامنه ، ولضيق الفسحة سنشير إلى نجاحه في اجتراح عتبة نصيّة في مُستويَيْها السيميائيّ والمعرفيّ ، فماذا عن المتن !؟
وفي الإجابة سنجد بأنّه جاء على إهمال الجهات الرسميّة للأنشطة الثقافية في الحسكة ، ناهيك عن إحجام المُجتمع الأهلي فيها عن دعم هذه الفعاليات ، على الرغم من أنّها تعنيه ، وهي مُوجّهة إليه ، وذلك على لسان بعض المُتذمّرين من أبنائها ، ثمّ عمد إلى مُقارنتها بالرقة ، ذاهباُ إلى أنّ الأخيرة - على الرغم من تشابهها ، من حيث البعد والإهمال مع الأولى - تزخر بالأنشطة الثقافية على مدار العام !
حسنا ، أليس لنا أن نتساءل عن الأسانيد في بناء رأي كهذا ، من غير أن ننفي مسألة الإهمال الرسمي والأهلي ّ التي جاء عليها في ما يخصّ الأولى ، أو ننكر على الرقة أنشطتها المُتعدّدة !؟ وسنوكىء أجوبتنا إلى لغة الأرقام ، لنقول بأنّ فرع اتحاد الكتاب العرب في الحسكة أقام في العام المُتصرّم خمسة مهرجانات ، مهرجان الأدباء الشباب الثالث ، ومهرجان القصة السورية الثاني ، وأسبوع الفكر الثاني ، فمهرجان الشعر السوري الأوّل الذي ضمّ شعراء من الأردن والعراق ولبنان للمرة الأولى ، وذلك إلى جانب الشعراء السوريّين ، ثمّ مهرجان الرواية الأول ليستضيف نقاداً وروائيين من لبنان والأردن ومصر والعراق وتركيا ، إلى جانب النقاد والروائيّين السوريّين ، لقد بدأنا مهرجان الشباب من خارج اتحاد الكتاب العرب قبل سنوات أربع بعدد لا يتجاوز أصابع اليدين ، ولأيام ثلاثة ، في حين أنّ الرقم بلغ تسعة وخمسين مشاركاً في مهرجاننا لهذا العام ، وهو الرابع على سلسلة مهرجانات الأدباء الشباب ، وامتنعنا عن تقديم أحد عشر اسماً لأسباب قد لا يكون المجال هنا مُتاحاً لذكرها ، وذلك على مدي أسابيع ثلاثة مُتفرقات ، حتى لا نثقل على الجمهور ، قطعاً نحن لسنا بصدد الجزم بأنّ جميع من قدّمناهم هم أدباء ناجزون ، ولكنّنا في إيلائنا الاهتمام والرعاية للأدباء الشباب ، كنّا مؤمنين بأنّهم المُستقبل ، لقد تعاملنا معهم بعقلية مُؤسساتية ليس للشخصنة مقام فيها ، وذلك ليشعروا بأنّهم مُحتضنون من قبل مُؤسّسة مُحترمة وذات مصداقية ، ناهيك عن أنّهم اكتسبوا ثقة بأنفسهم ، ولذلك راحوا يحصدون الجوائز في غير مُسابقة على مُستوى القطر ، وللدكتور الصالح أن يراجع نتائج مُسابقات رابطة خريجي الدراسات العليا ، أو مسابقات اتحاد الطلبة المركزية ، أو مسابقة العجيلي للعام الفائت ، وسيجد أنّ المراكز الثلاثة الأولى فيها كانت من نصيب الحسكة ، ناهيك عن حالات إفرادية كما عند محمد العجيل في مسابقة المرحوم خليل جاسم الحميدي ، أو حالة وجيهة عبد الرحمن في غير مسابقة ، كانت مُسابقة عبد الباسط الصوفي آخرها ، ولن نتكلم عن زملائنا الذين مثلوا القطر في غير مسابقة عربية ، وتحصلوا على مراكز مُتقدمة كالدكتور أديب حسن محمد ومنير محمد خلف وأحمد إسماعيل .. إلخ ، ولا إلى تساؤل أهالي الرقة أن ما الذي يجري في الحسكة مُؤخراً ، ما يضع استنتاجه حول المُحافظتين محلّ تساؤل في قسم كبير منه !
صحيج أنّ عبقرية المكان تُستمَدّ من عبقرية أناسه ، وهذا ما دفع غاستون باشلار إلى تخصيص كتاب عن جمالياته ، ونحن هنا نقصد الجانب الفنّي لأنه يهمّنا ، وأنّ ظروفاً أتيحت للرقة لم تتح للحسكة ، ابتداء بكاريزما الـ : د . عبد السلام العجيلي - رحمه الله - حال حياته ، وانتهاء بوجود الأستاذ حمود الموسى على رأس مُديرية الثقافة إلى زمن قريب ، ذلك أنّ آل العجيلي ينظرون إلى أنفسهم كبيت ثقافة وأدب ، وحتى يُحافظوا على ميراثهم هذا دأبت الـ : د . شهلة العجيلي على حضور مهرجان أبيها كل عام ، وشاءت الظروف أن يتواجد الأستاذ رياض العجيلي في قيادة فرع حزب البعث العربي الاشتراكي كرئيس لمكتب الإعداد والثقافة والإعلام ، وأبناء جيل بذاته يتذكّرون دور وزير الإعلام الأسبق الأستاذ محمد سلمان في دعم الحراك الثقافي والفنّي هناك ، أنتم لن تصدّقوا بأنّ أهالي قرية دبسي عفنان ، وهي قرية الأستاذ الموسى ، راحت تخصص جزءاً من زكاة محاصيلها لصالح الثقافة ، وأنّها ترعى مهرجاناً باسمها ، فهل توفرّت الشروط ذاتها في الحسكة !؟ عدا اللواء محمد نمور النمور - مُحافظ الحسكة الأسبق ، وهذأ اعتراف بحقيقة - هاتوا لي اسم مسؤول في الجهات الرسمية دعم حراكنا مادياً أو معنوياً ، على ألاّ يُفهم من كلامنا بأنّ اللواء النمور دعم أنشطتنا الثقافية بمُجملها ، لقد أقتصرت المسألة على مرّة يتيمة في مهرجاننا الفكريّ الأول ، الذي حمل اسم أسبوع الفكر ، ولترَ المدينة - وعلى نحو سنويّ مُتكرّر - مُفكّرين من مُستوى الـ : د . طيب تيزيني ، ولن نتحدث عن الذين توهموا بأنّ هذه التظاهرات تخصّ محمد باقي محمد ، ولا تخصّ المحافظة ، فأثاروا لغطاً وأقاويل كاذبة أجفلت الجهات الأخرى ، فأحجمت عن الإسهام في فعالياتنا تحسّباً ، وسنستثني ممُا تقدّم اتحاد عمال المُحافظة وجامعة المأمون لإسهامهما معنا في مهرجان الرواية ، ولكنّ هذا التعاون لم يتكرّر ، وسنتذكّر فرع الهلال الأحمر وفرع الطلائع اللذين لم يبخلا علينا في الجانب التنظيميّ لبعض التظاهرات ، وفي حفل الافتتاح ، وقد نتذكّر إسهام محلات كسبو في تقديم الحلوى لليوم الأول من أحد المهرجانات ، إلى جانب إسهام مالي بلغ عشرة آلاف ليرة سورية قدّمتها شركة دجلة للنقل ، وبطاقات الذهاب والإياب التي تبرّعت بها شركة الرافدين للنقل والتسويق السياحيّ ! ولسنا نلوم أحداً في هذه النقطة ، ذلك أنّ اللغط - الذي جئنا عليه - كان سيدفع أيّ جهة إلى سلوك تجنّبيّ ، بيد أنّ السؤال سيظل يلحّ ، أن لماذا أحجمت مكاتب الثقافة في المنظمات عن إقامة أنشطة ثقافية تخصّها ، " اللهم " إلاّ في المُناسبات الرسمية !؟ وللتأكيد على ما ذهبنا إليه تعالوا نحتكم إلى قول أسرّ به الروائيّ المعروف إبراهيم الخليل من الرقة ، إذْ أعلن وبملء صوته بأنّهم أشاعوا كذبة وصدّقوها ، فقالوا بأنّ حمص مدينة الشعر ، وهذا صحيح ، وأنّ الرقة - والكلام مايزال للخليل - عاصمة للقصة ، وهذا زور وبهتان ، فليس ثمة من يرث جيلنا في القصّ والشعر ، في حين أنّ الحسكة تعجّ بأصوات جديدة أثبتت موهبة وجدارة في كلّ محفل ! وسنستثني ممّا تقدّم مهرجان الخابور الذي كان مجلس مدينة الحسكة يرعاه ، والذي أوقف هذا العام مع مجيء رئيس جديد للمجلس ، وليتنا نعرف السبب ، ثمّ أنّنا لسنا بحاجة إلى المُقارنة في الإمكانات بين الرقة والحسكة ، لأنّ الحديث عن أصفار ستة في الأولى لا يُقارن بأي حال ببضعة آلاف - ولن نقول قروش - في الثانية !
وسنختتم بالتساؤل عن الأسباب الكامنة خلف إقبال المُجتمع الأهلي في الرقة على دعم الحراك الثقافي فيها ، وإحجامه في الحسكة عنها ، لنكتشف بأنّها - أي الأسباب في زعمنا - تكمن في انسجام أثنيّ في الأولى ، وتنافس بين عشائرها على هذا الإقبال ، وهكذا تلعب بنية مُفوّتة ، ولا تنتمي إلى العصر دوراً إيجابياً في الحراك الثقافي فيها ، في حين أنّ الحسكة تضمّ شتيتاً من الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف والملل ، ، فإذا تذكّرنا بأنّ الأقلّيات - على مُستوى علم النفس - تعاني من رهاب الأقلّيات ، ووضعنا في حسابنا أنّ التجربة الديموقراطية في القطر غضّة ما تزال ومتعثرة أحياناً ، ولمّا تتأرّض بعد ، عرفنا الأسباب اللاطية وراء تراجع إسهام المُجتمع الأهليّ في فعاليّاتها الثقافية !
ثم لننتقل إلى تحرّي ما جاء على لسان الصديق الصالح ، وذلك في ما يخصّ اشتغالنا على الحسكة كمكان يحتضن روايتنا " فوضى الفصول " ويبيّئها ، لنتساءل : أليس ثمّة أسباب موضوعيّة لاطية خلف فجائعية المكان ، أو تفجّع الكاتب !؟ ولنتذكّر بأنّ الحسكة تقع على تخوم بادية شحيحة بالألوان حد الإدقاع ، حيث يقسو المناخ ، ولاشكّ بأنّ بنية كهذه ستختلف عن بنية اللاذقية مثلاً ، الواقعة على شاطىء المُتوسّط متدثرة بخضرتها ، ومًستلقية بين بحرها وجبلها ، فيتلطّف مناخها ، وتتعدّد ألوانها ، ويتشذّب سلوك أهلها ، ناهيك عن انفتاحها - عبر البحر - على الآخر ، في حين أن الحسكة ستنتج شخوصاً يتسّمون بالقسوة ، ولن نقول الفظاظة !
لقد غاب - بزعمنا - عن الصديق الصالح مسألة هي على غاية من الأهمية في الأدب ،
وهي موضوعة النمذجة ، فتناول الشخصيّة المحوريّة في المُستوى الوافعيّ ، وهذا أحد مُستويات العمل ، لكنّها ليست المُستوى الوحيد في الرواية ، فلقد جاءت أساساً على المنهج الواقعيّ النقديّ ، ولهذا غاب عن الصالح تأويل الخطاب الروائيّ ما أفقره ، ونحن إذ نُذكّر بأنّ الرواية ظهرت إلى الوجود عام / 1997 / ، لا نريد أن نتملّص من مسؤوليتنا عنها ، فهي جزء من مسيرتنا ، ولهذا قد ندّعيّ بأنّ المكان - على أساس ما تقدّم - لم يتجاور - بل تفاعل - مع شخوصه ، وسنُذكّر بأنّ ضمير المُخاطب هنا عبارة عن لعبة فنيّة تحيل إلى مُخاطبة الذات ، هو ضمير المُخاطب المُتكلّم إذا جاز التعبير ، وفي حدود علمنا لم يقم روائيّ سوريّ باجتراح كهذا على مسار رواية بأكملها ، لقد راهن الكثير من الأصدقاء على إخفاقنا في إكمال الرواية بهذا الضمير كحامل لها ، والوقائع تقول شيئاُ آخر ، بيد أنّنا لن ننكر بأنّ اربع عشرة سنة تفصلنا عن تاريخ صدورها ، وأنّ الكثير من رؤانا الفنيّة أو الفكريّة - خلال هذه الفترة - قد تبدّلت أو تطوّرت ، وأنّنا لو كتبناها اليوم ، لكتبناها على نحو مُختلف ، على الأقل لنتحاشى تقديم الشخصيّات الأخرى من خلال الشخصيّة المحوريّة ، ذلك أنّها قد تدّعي بأنّها - وهذا حقها - لو عبرّت عن نفسها ، لجاءت مُختلفة عن الصورة التي جاءت بها في المتن !
نعم لقد غادرت الشخصية المحورية القرية إلى المدينة ، ولكنّها غادرتها بعد أن تشكّل وجدانها ، ومعروف بأنّنا لسنا نسكن الأمكنة فحسب ، بل أنّها تسكننا هي الأخرى ، هذا قد يُفسّر استبداد الحسكة بذاكرة الروائي خليل النعيمي ، على الرغم من أنّه تنقّل بين دمشق وبيروت وباريس وغيرها من الأماكن ، ثمّ أنّه غادرها مُكرهاً إلى الداخل السوريّ بداية كضابط طبيب ، وإلى الخارج أيضاً على النحو ذاته ، ولو أتيح للصالح أن يقرأ مقاله عن بيروت في مؤتمر الجراحين العرب الذي حضره مؤخراً تحت عنوان " بيروت مدينة اللا أحد " ، إذن لأدرك ما تعنيه دمشق بالنسبة للنعيمي ، فكيف بالحسكة ، وهي جزء من ذاكرة الطفولة واليفاعة والشباب المُبكّر !؟ ودمشق هنا تعني سورية ، وتعني تحديداً الحسكة المرفوضة لفظاً - " النبذ " اصطلاحاً عند الصالح - الساكنة خفق الضلوع بشكل مُضمَر - " المرجعية " بحسب الدكتور الصالح - ولكن غير مُتاح ، وهذا اتفاق آخر مع الصالح في مقاله ، ذلك أنّنا في الأول لم ننكر على الرقة تعدّد أنشطتها ، ولكنّه غبن الحسكة حقها في السنوات الأخيرات !
بهذا المعنى - وفي عودة إلى المكان - تختلف زاوية الرؤية بيننا وبين النعيمي ، فهو يكتب عن مكان أضحى قيد الذاكرة ، ولذلك ثمة سرد استعاديّ يورق في الذاكرة تحت ركام الرفض الاحتجاجيّ الظاهريّ، إنّها عبقريّة المكان المُستمدّة من عبقرية سكّانه ، في حين أنّنا كتبنا عن الحسكة ، ونحن نعيشها ماضياً وراهناً ، ولم نرها مكبّ نفايات ، بل كنّا نشير إلى إهمال من تعاقب على إدارتها ، أمّا الانتقال الإيجابي من القرية إلى المدينة كما رآه صديقنا الصالح ، فلقد سها عن الكيفيّة التي أنشأ وفقها قرويو الحسكة قرى جديدة على غرار قراهم الأصليّة ، كما تناسى بأنّ الحسكة مدينة ريفية حتى العظم ، وكلّنا نعلم بأنّ من عاش طفولته في القرية يحنّ إليها ، لا سيما حين راحت الحسكة - على تريّفها ، ربّما لأنّ حجم القادمين من أريافها فاق عدد سكانها - تتسع وتكبر وتزدجم ، في تشابه مع المدن العريقات ، مع فارق التخديم والاهتمام !
بقي أن نشكر الصديق الصالح على إثارته لذاكرتنا الجمعية ، لا سيما في اغتيالنا لنهر الخابور ، وأن نقول له بأنّ الدكتور محمد البراك ، المقيم حالياً في الولايات المتحدة هو ابن مسلط المحشوش البراك ، وهم من الملحم ، أي من وجهاء قبيلة الجبور المعروفة في الحسكة ، ولا تزال أطلال النواعير التي ذكرها قائمة كطلل إلى جنوبي شرقي دار أهله ، فأين الاختلاف الذي بيننا وبينه !؟ لقد كانت الحسكة قرية صغيرة ، والسؤال المطروح على الدكتور البراك هذه المرة هو : لو لم يقم الفرنسيون ثكنتهم المعروفة له في الحسكة ، فماذا كان يتوّقع لها في المُستقبل ؟! ولماذا يلجأ أكاديميّ يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بالتركيز على دور بنية اجتصادية وسياسية وثقافية مُفوتة كالبنية القبلية - على أمل ألاّ يكون ما ذكره تشومسكي في / 501 الغزو مُستمر " عن نشوء بؤر عالمثالثية مُريّفة في قلب المركز الامبريالي العالمي ، و من ثمّ الاعتزاز بها صحيحاً - لا سيما وأنّ ما قدّمه الدكتور البراك لا يرقى إلى مُستوى الدراسات الأنثروبولوجيّة !؟
__________________________________________
* محمد باقي محمد : كاتب وأديب من سورية !
* ردّ على مقالة الدكتور صلاح صالح " المرجعية والنبذ " ، المنشورة في العدد / 710 / من ملحق الثورة الثقافي بتاريخ 28 / 9 / 2010