قصة : محمد باقي محمد
• لصلاة على ربض من الأرض :
ولأنّك كنت من مقام الاستقامة مع شيء من الإفراط ، كان هذا الكسر الحاد ، الذي طال - في المُجتبى - حياتك ذاتها ، بيد أنّ السؤال الذي ظلّ يلحّ على نحو ممرض ، أن لماذا في هذا الوقت المُحايد بالذات وقعت الواقعة ، ولماذا تصادف وقوعها على ذلك النحو !؟ ربّما لأنّ اليوم لم يكن غائماً مُلبّدًا..عاصفاً مثلاً ، ولم يكن ربيعياً رائقاً أيضاً ، مُشمساً على نحو مُتأنّق ، أو هادئاً وسناً كما هو الحال عليه في أيام الخريف ، ولا صيفياً قائظاً يجلد أديم الأرض بسياطه ، فهل تزحلقت السماء على الأرض !؟ هل حدث شرخ ما فيها ، وتساقطت أنجمها في شقوق النهار !؟ أم أنّ شيئا من هذا وذاك لم يحدث ، ربّما لأنّ الأفلاك كانت خارجة - أساساً ـ عن سياقها ، وإذن.. فهل مضى اليوم عادياً ، بحيث هرعت الناس إلى تصريف أمورها ، وكأنّ شيئا لم يحدث !؟ ربّما كانت الأمور قد تتالت بالطريقة الأخيرة ، لأنّها أقرب إلى منطق الأمور! بيد أنّ ما تقدّمَ لا يعني أنّ مدينة صغيرة كحرّان لن تفتقد عينين ذكيّتين كعينيك ، كانتا أقرب إلى ذاكرة البوح منهما إلى ذاكرة الإفصاح ! فهل كانتا تنطويان على خوف مُبهم !؟ هل كان ثمّة تهديد مُبطّن أو سافر ألجأهما إلى عبّ الصمت !؟ مهما يكن فإنّ سماء المدينة كان لها أن تنشرخ لمقتل شاب في الخامسة والعشرين من عمره ، أو ـ ربّما ـ في السادسة والعشرين ! إذْ ليس ثمّة ظهورات تعيد للأموات الروح ! لذا فإنّ وجهك الشاحب سيظلّ يشي باللحظات الرهيبة المُؤسّسة للرحيل ، وسيظلّ السؤال مُسطّرًا ، أن لماذا اكتفيتَ من الحياة بما تصرّمَ ، لترحل بتلك الطريقة المُثيرة للجدل ، مُكتفياً بأعوامك الخمسة والعشرين!؟
• ذاكرة المكان :
ولأنّ المكان هو المكان ، تظل موران بلدة وادعة ، تغفو على خاصرة نهر ، جفّ - هو الآخر - في سياق غامض ، لكنّ أحداً لن يدّعي بأنّه فعلها إثر نوبة حزن ، ولا حتى على سبيل الاحتجاج ، أمّا الزمان فهو الزمان أو أكثر قليلاً ، فلماذا كان الأهل خائفون من التصريح بسنة ولادتك !؟ هل تلقّوا تهديداً من نوع ما ، على شكل تصريح - مثلاً - أو في إهاب تلميح !؟
في هذه البلدة المُترعة بهمومها الصغيرات ، وبحسب ما جاء في الحكايات ، عاش أبو أنور في غرفة مُقببّة ، تلحق بها غرفة أخرى أصغر.. ترابيّة طبعاً ، كانت في قسم منها منزلاً ، فيما حوّل البقية إلى ورشة صغيرة لإصلاح مواقد " الكاز" ، التي كان الأهالي يطبخون أطعمتهم عليها ، إلى هذا المكان تنتمي البدايات ، التي ستؤسّس لأسرة مُتحابّة ، أسرة سيكون لها صيت طيب ، كان الأب يجهد ما بوسعه ليُقدّمَ لأسرته احتياجاتها المُختلفة ، أمّا أنور فسيتخرّج من كليّة الهندسة ، قسم العمارة ، وسيُكمل شقيقه جورج دراسة الموسيقى ، حتى الأم - كما جاء على لسان الأهالي- كانت يدها مُباركة، ونَفَسَها على الطعام طيباً ، لقد كانت امرأة قنوعة ، وأمّاَ مُحبّة طيّبة !
وتظلّ موران العنوان الأوّل ، الخاتم الأوّل الذي يمهر قلبك بميسمه ، لأنّها تُحيل إلى مرابع الطفولة ، وتختصر بهاء الأمكنة في أحرفها الخمسة ، ما يدمغ المُخيّلة والفؤاد بتفاصيلها السحريّة ، إذن .. فالنهر والإثل والشجيرات المُرصّعَة على طرفيه لن تغيب عن ذاكرة الطفولة ، إذْ أنّ هذه الأماكن هي التي كانت تشكّل مخابئ مثاليّة ، تخفيك وأترابك عن عالم الكبار الرصين ، ناهيك عن أنّها كانت ملاجئ لفخاخ القطا والزيزان ، بعيداً عن انتحار النهر الآن ، ربّما لأنّ الأمر - إذاك - كان مختلفا !
أمّا الأخويات الكنسيّة ذات الأنشطة الاجتماعية ، المُتشحة بلبوس دينيّ لأقليّة تخشى ـ أساساً ـ الذوبان في مُحيط مسيحيّ أكبر ، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بمُحيط إسلاميّ أكبر فأكبر !؟ أمّا تلك الأخويات ، فكانت تستأثر باهتمامك الدائم ، هناك نسجت الحكايا تفاصيل أوّل قصّة حبّ ، عشتها مع فتاة في مُنتهى الرقّة والجمال تُدعى زينة ، وفي ظلّ عريشة عنب راحت تتسلق جدران المكان بوله ، تذوّقتَ طعم القبلة الأولى ، وعرفتَ أسرار التشوّف والحنين واللايُسمّى من الأحاسيس الثرّة والمُتناقضة في احتدامها وتدفقها ، لكنّ الخدمة الإجبارية في الجيش ستقف لك بالمرصاد ، لتقتطع من عمرك سنتين أو أكثر ، وقد لا تكون المُعضلة في الخدمة الإجباريّة ذاتها ، بيد أنّ المُمضّ في الموضوع هو إحساسك بالفوات ، ذلك أنّ البلد - كما سيجيء على لسانك مراراً - لم يكن قد أطلق رصاصة واحدة نحو العدو منذ ما يربو على الثلاثين عاماً !
• فصل الظهورات :
ألهذا السبب أحسّ الصديق بأنّ الجهات تتداخل وترتطم !؟ هل كان للأمر علاقة بدورة الأفلاك ، ومواقع النجوم !؟ ألهذا ـ وفي أوقات بعينها من السنة ـ كان سلوك عصابيّ يركب أنور ، فيعتزل الناس ما أمكن !؟ بيد أنّ أحدًا لن يتنبّه إلى تطابق هذا السلوك مع فترات تعذيبه ، ولن يتسنّى لأحد أن يضع يده على ميله المتنامي نحو فكرة الانتحار، حتى أنّ الأمر بمجمله كان يبدو كعطب ما في الإطار العام ، أو انحراف في البوصلة ، أو خلل في النظام الأرضيّ !
ذلك أنّ أنور ، وهو يُساق إلى الجيش ، قادته النجوم في ساعة نحس ربّما ، أو لأنّ القمر كان في محاقه المُلغز ، إلى مطار " العين " اللاطي بالقرب من العاصمة ، وعلى نحو ما بدا الأمر مُرتبطاً بحظّه ، الذي سيكتشف لاحقاً إلى أيّ حدّ كان عاثراً ، هناك وجد نفسه موضع ترحيب ، سيتبيّن - في ما بعد - بأنّه زائف هو الآخر ، إذْ أن ّالضابط المسؤول خاطبه بلهجة أبوية :
- من حسن حظنا أنّك مُتخصّص في هندسة العمارة.. سنُسلّمك مًخططات المطار، ولابأس من أن تعلّم الأولاد أيضاً !
إلا أنّ أنور الذي كان قد تربّى بطريقة سليمة أو خاطئة ، إذْ من الذي يستطيع الجزم في مسألة كهذه ، سيجيب بوضوح طلقة :
- ولكنّني هنا لخدمة بلدي، وليس لتعليم أولاد الناس .. سيّدي !
وسيتفاجأ الضابط بالإجابة ، غير أنّ تفاجؤه لن يطول ، إذّ أنّه سيحسم الأمر بسرعة ، ولن تمرّ أيّام معدودات حتى تأتي ثلّة من البصّاصين ؛ لتقتاد أنور من قطعته ، وهناك سيجابه بالسؤال المُمرضّ أن " متى، وكيف !؟ " متى قامَ بتسريب المُخططات إلى العدو، وكيف !؟ تلك كانت الأسئلة التي ذهبت بعقله إلى حافات الخلل !
غبّ هذه اللحظة لن تكتمل أركان هذه الحكاية إلاّ بنقاط ، تومئ إلى فترة مجهولة قضاها أنور في " ضيافة " أولئك القوم، ولذلك سيكون على المخيّلة أن تحيك مُجرياتها في تلك الفترة من وحي المُخيّلة ، لكنّ الضغوط المُبهظة مُستترة بلحظة حميمة ، على سكر ربّما ، ستدفع أنور إلى أن يشي فيها لصديقه ، بأنّهم لم يوفروا وسيلة تعذيب لم يُجرّبوها معه ، آنئذ تلفّت أنور حوله بحذر، وقرّب فمه من إذن صديقه هامساً:
- أنت لن تصدّق بأنّهم لاطوا بي حتى ! وها أنت بعد هذا كلّه تتساءل عن سبب تهتك علاقة الحبّ التي كانت تجمعني بزينة ، أنا أعذرك ، فأنت لم تجرّب ما حدث لي ، ولذلك فأنت لن تعي ما معنى أن يستحيل على المفعول به أن يلعب دور الفاعل ثانية !
* عن الرماد والديكة وأشياء أخرى:
ولأنّك في تحوّلاتك مررتَ بفصل الرماد ، طالك التغيّر والتشظي والانقسام كثيراً ، إذْ راحت عيناك ترمشان بصورة لا إراديّة ، فيما استوطن القلب خوف مُبهَم ووُحشة ، لا سيما عندما كانت أيّام التعذيب تضغط على الذاكرة المُدمّلة ، فتتلبّسك حالة تشبه الحلول ، ولا تعود تنتمي إلى المكان إلاّ بجسدك ، أمّا الروح والعقل والقلب فكانا أرضاً مُستباحة للتوزّع والتحوّل وخراب الدورة الدموية ، حتى أنفك راح - هو الآخر - يبدو مائلاً بصورة ما لشدّة ما عراك من نحول ، ولم تكن تعرف أنّها أحد إشارات الموت !
كان المُحققون قد أيقنوا بأنّك مُشرف على النهايات أو تكاد ، وأنّك لم ترتكب شيئا ممّا نُسب إليك ، ففضّلوا التنصّل من المسألة ، ربّما لأنّهم في لحظة حياد ، شمّوا رائحة تزكم الأنوف ، ولذلك اقتادوك إلى مرآب للنقل العام ، وطلبوا إلى بدويّ كان في العاصمة لقضاء حاجة ، أن يصطحبك معه إلى موران ! محتارًا كان الرجل، فأنت تعيش الاحتباس في النطق ، وتجهل حتى اسمك ، ولا تعرف شيئا عن مكان إقامتك ، لقد اقتنصوا مُخيلتك هناك على نحو ما ، فأضحت خربة خاوية !
وفي استراحة تبعد عن موران قرابة مائة كيلو متر توقّفت العربة ، وكان ثمّة عربة أخرى مُحمّلة بالخضار قد استراحت إلى المكان هي الأخرى ، ما دفع البدويّ إلى الاقتراب من مرافق السائق مُتسائلا:
- أليست هذه العربة التي تنقل محاصيل أهل موران !؟
فأومأ إيشايا بالإيجاب ، وأمسك البدويّ بكمّه راجياً :
- معي شاب لايعرف اسمه ، ولامكان إقامته ، لقد طلبوا إليّ أن أوصله إلى أهله ، وأنا لا أعرف كيف !
ولمّا وقعت عينا إيشايا عليك صرخ مُباغتاً :
- أنور! ! !
أمّا أنت ، فكنتَ - إذاك - تسكن إلى ملكوت آخر، إذْ كنت تحمل في يدك " صندويشة "، إلأّ أنّك لم تكن تعرف كيف تضعها في فمك ، وكانت دموعك قد اتّحدت مع مخاطك ورضابك كما في قصيدة بائسة ومُؤسية ، ولمّا اتضحت أبعاد المشهد التراجيديّ بشكل مُبهم للجميع ، قال المرافق لسائق العربة :
ـ أكمل أنت طريقك ، فأنا أعرف أهله ، سأصحبه إلى منزله ، ثمّ ألحق بك !
بيد أنّ عيون الأهل لمّا وقعت عليك ، استبدّت بها الدهشة والاستنكار على قلق ، حتى أنّهم كادوا أن ينكروك ، ثمّ وضعوك في فراشك بارتباك ، ودثروك شاكرين إيشايا الذي أكمل رحلته !
• من مقام التشظي :
وأشارت الحكايا في متونها إلى أنّ تحوّلات أنور بدت بلا حدود ، فأضحى أكثر انطواءً ، أمّا لماذا أقدم على الاستقالة من وظيفته ، فتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ! كانت البلدة تشكو شيئاً من الكساد ، ولم يكن ثمّة عمل ، فانعكس الأمر على المكتب الهندسيّ ، الذي كان قد افتتحه غبّ استقالته !
وكان أنور قد أضحى من النوع الذي يراكم المشاكل ، ويتفكّر فيها مجتمعة ، فتعظم في عينه ، فمتى يتزوج مثلا !؟ وكيف يتدبّر منزلاً !؟ كيف ينشئ أسرة !؟ وهل سيتحسن سوق العمل !؟
وفي لحظة شديدة السواد خارجة عن المُحاجَجَة المنطقية للأمور ، لحظة مُحتكمة إلى منطقها الخاص ، وسياقها غير المفهوم إلاّ لصاحبها ، سيقصد أنور رئيس بلديّة موران ، وسيطلب شيئاً من سمّ الفئران ، فيرحّب به الرجل ، على ظنّ منه بأنّ الكمية ستُستخدَم للتخلّص من القوارض ، لكنّ أنور كان قد حسم أمره ، وأحرق سفنه ، إذْ لم يعد في الإمكان إعادة الأمور إلى سابق مسارها ، وكانت جرعة السمّ الكبيرة ، التي تجرّعها كافية لترمي به في مشفى " ش" ، وهو يتأرجح بين الحياة والموت ، فكان أن اجتمع الأطباء على الحالة العاجلة ، وبسرعة مجنونة ومُرتبكة أجروا له غسيلاً للمعدة ، وغزوا أبر " السيروم " في ذراعه المشعرة ، غبّ أن خلطوها بالكميات اللازمة من الأدوية ، ولم يبخلوا عليه بالحقن من كل صنف ، إلا أنّ السمّ كان قد تسرّب إلى الشرايين ، ليوقفَ دورة الحياة في الجسد الواهن ، ولم يكن أمام أنور سوى ثلاثة أيام ، قضاها بين مشفى " ش " ومشفى " ح " ، ليُغادر الدنيا هذه المرّة وإلى الأبد ، رحل الشاب فجأة إذن ، وكان فراشه ما يزال يحمل دفء الجسد الإنسانيّ الحيّ ، وكان قد تجعّد وانثنى مُستجيباً لانثناءات هذا الجسد ، حتى لكأنّه كان ينتظر عودة صاحبه الذي غادره للتو!
لكنّ الحكايا تجاهلت التفاصيل المُتعلقة بكمد الأهل ، فلم تأت على فالج أصاب الأم غبّ رحيل أنور الفاجعيّ ، ولا على حركات لا إرادية وشمت المتبقي من عمر الأب ، ولا - حتى - على انكسار حاد أصاب الأخ في مقتل ، فمال إلى صمت نفور وعزلة !
• عن الخواتيم في تفاصيلها الباذخة :
وأتت الحكايا في خواتيمها على تمرّد قاده نهر وئيد على الضفتين على شكل احتجاج ربّما ، لكنّ مياهه التي كانت قد غارت في فجّ عميق لم تسعفه !
وفي الإبّان ذاته جاءت الحكايا على أنّ أبواب الدور ـ التي لم تكن قد أغلقت من قبل ـ راحت ترتجّ على قاطنيها غبّ المصاب الجلل ، تاركة الأزقة تذروها الرياح ويسوسها الخوف والرعب المزروع في الأحداق !
ثمّ أردفت في متونها بأنّهم ـ منذ ليلة صيف ـ راحوا يسمعون همهمة صادرة عن المقابر، فهل لأنّ أنور كان يدرك بأنّه قد عبر البرزخ الفاصل بين الحياة والموت ، وأنّ أحدًا لن يطاله بعد بالعقاب ، قرّر أن يستبدل فطنة الصمت الأثيث وفتنته ، بفظاظة الكلام ، الذي لم يستطع الأهالي أن يُميّزوا فيه سوى كلمة واحدة راحت تتكرّر كثيّمة ، أن " الثااار.. الثااار.. الثار " !؟
وإذا كان هذا تلخيص ما جرى آنذاك ، فلماذا زعم حارس المقبرة على نحو مُؤكّد ، وهو يُقسم بأغلظ الأيمان ، أنّه رأى رؤيا العين ظهورات الموتى للنشور، وشهد تشقق الأكفان عن أجسادهم الناحلة ذات فجر، كان أنور يسير في مُقدّمتهم كحادٍ ، مُطأطئي الرؤوس كانوا ، وكانت محاجرهم مُطفأة ، ولكن وبإصرار واثق وأكيد تحركّوا كسيل هادر ومكتوم ، لم تكن لهم ظلال مُرافقة ، وفي مفترق من المكان ارتفعت راياتهم السوداء ، ربّما لأنّ أحداً ما كان قد لصّ منهم حقّهم في الحياة ذات غفلة ، كانت العواصم المُتخمَة وجهتهم ، وكانت الأرض تئنّ تحت أقدامهم ، لقد طفح بهم الكيل ، هكذا تابع الحارس وهو يُحرّك يديه ، تقدّموا إلى الأمام ، وفوق الرؤوس كانت الثيمة ذاتها تتكرّر ، أن " الثااار.. الثااار.. الثار " !
¨
______________________________________________
* محمد باقي محمد : كاتب وأديب من سورية