تشتغل الـ : د . ماجدة غضبان على جنس شديد المُراوغة ، إذْ في الوقت الذي يُحيل فيه ظاهره إلى السهولة ، إلاّ أنّه يتطلب قدرة هائلة على التكثيف ، أي - وبشيء من التبسيط - أن نقول أكثر ما يمكن من المعاني بأقل ما يُمكن من العبارات ، ناهيك عن أنّه غير قارّ بعد ، أي أنّه ما يزال قيد المُمارسَة ، إن على مُستوى اجتراح النصّ ، أو على مُستوى التقعيد له أيضاً ! بهذا المعنى فإنّ الخوض فيه ينضوي على قدر غير قليل من المُغامرة ، التي تسوس الكتابة ككلّ ، إلاّ أنّها في هذا الضرب من القصّ تصل إلى ذروتها ، لا سيما عندما ينجز البعض تضاداً على وهم أنّه قد أنجز ق ق ج ، في حين أن التضاد يُؤسّس للحظة المُفارقَة ، إلاّ أنّه - لوحده - ليس قصة قصيرة جداً !
ففي نصّها الأوّل الذي وسمته بـ " مواء " ، تأتي على أمّ تتسم بالصلابة أو القسوة ، من غير أن تشرح لنا سبب تلك القسوة ، إذْ تقوم كل صباح بخبز كرات من العجين ، فيما يتشبّث طفلها بثوبها ، وهو يموء مواء قطة جائعة ، غير أنّ عضلة واحدة لا تهتز في بدنها لبكائه ، ليس هذا فحسب ، بل أنّ المشهد - إذ راح يتكرّر يومياً - لا يُحرّك في أهالي القرية ساكناً لانهماكهم بتصريف شؤونهم وشجونهم !
وللوهلة الأولى يبدو النصّ عادياً كقطعة اقتطعتها الغضبان من الحياة اليوميّة ، وهو لا شك مشهد مألوف ومُتكرّر ، بيد أنّ قراءة مُتأنيّة في المتن ، ستكشف ذكاء بلا حدود في تناول الفكرة ، إذْ كيف لأمّ أن تصمّ أذنيها عن ضراعة طفلها الصغير والجائع ، والأم كما نعلم رمز للحنان الذي يتبدّى في عطاء ليس له حدود !؟ وإذا كان للأمّ أسبابها في قسوة لم يُفصح النصّ عن أسبابها ومغازيها ، فلماذا لم يُحرّك بكاء الطفل الضارع أهالي القرية ، ليظلوا على انهماكهم باليوميّ من شؤونهم ، التي - قد - لا تخلو من الابتذال !؟ وهكذا تكشف القاصّة الجوهريّ من العارض في سلوكنا كبشر من خلال لقطة اعتيادية تماماً !
هكذا تكون الـ د . غضبان قد أعملت مبدأ الحذف والاصطفاء ، الذي يسوس العمل الفني من مُبتدئه ، أي من اختيار الفكرة ، وإلى مُنتهاه ، أي إلى اختتام التنفيذ ، فحذفت - بحسبها - ما هو عارض ، نافل عن القول ، ما كان سيسم نصّها بالترهّل ، واصطفت - بحسبها - ما هو جوهريّ يقع في صلب القصّ !
فإذا بدأنا من العنوان ، وهو - أساساً - عتبة نصيّة ، سنلاحظ بأنّها تخيّرت المُفرد منه ، ربّما لأنّ الكلمة في إفرادها حمّالة أوجه لا تجدّ ، ثمّ أنّ " مواء " تحيل إلى صوت القطة في حالة الجوع أو التواصل ، ما يشي ثانية بذكاء القاصّة في الاشتغال عليه ، إذْ لا شكّ بأنّ القارىء سيتفاجأ بافتراق الخواتيم عن المُقدّمات توخيّاً للإدهاش ، ناهيك عن الأسئلة التي يثيرها في تجاوره أو تقاطعه مع المتن ، أن من الذي سيقوم بفعل المواء ولماذا !؟ ليكتشف القارىء بأنّ المواء كان يحيل إلى تذمّر الطفل بسبب من جوعه ربّما ، وربّما بسبب من إهمال الأم !
ولأنّ القصة الناجحة تنمذج لأكبر عينة اجتماعية مُمكنة ، جاءت الغضبان على انهماك الآخرين في أعمالهم اليوميّة المُعتادة ، من غير أن يأبهوا ببكاء الطفل أو إهمال الأم ! وهذا يُذكّرنا باشتغال غابرييل غارسيا ماركيز في روايته " قصة موت مُعلن " ، فجميع أهل البلدة على كلام الأخوين عن رغبتهم في قتل نصار ، اللبنانيّ الأصل الذي اعتدى - بحسبهم - على شرفهم ، كما كانوا شهوداً على استعدادهم لعملية القتل من خلال شراء السكين وشحذها ، لكنّ أحداً منهم لم يُحرّك ساكناً لإيقاف موت مُعلن على الملأ !
وفي عودة إلى مبدأ الحف والاصطفاء ، سيُلاحظ القارىء بأنّه أتاح للقاصّة الاشتغال على مفهوم التكثيف ، وهو مفهوم تشترك فيه الـ : ق ق ج مع الشعر ، لتنأى بنصّها عن الترهّل أو الإنشاء الفائض عن الحاجة ، سيما وأنّ الكلام يدور حول جنس يقوم على ضبط صارم حتى في طوله !
ثمّ أنّ لغتها تنحو جهات المُجنّح ذي الأفياء والظلال والتوريات ، ذلك أنّ هذا الضرب من القصّ يترك الكثير من التصوّرات لمُخيّلة القارىء ، لكي يستنتجها من بين السطور ، هي لغة تقوم على الإيحاء إذن ، ولذلك تكثر فيها الإيماءات والإحالات ، وتجبر القارىء على الاشتراك مع الساردفي بناء تصورات تتعدّد بتعدّد القراءات !
ويبقى السؤال أن لماذا تخيّرت القاصّة ما يُشبه الكادر في المشهد السينمائيّ أو اللوحة التشكيليّة ، ففي إحداها ثمة أمّ تخبز ، وفي الثانية طفل يتشبّث بأذيالها ، وفي الثالثة أناس مُحايدون في مشاعرهم إلى حدّ السلبيّة ، فهل للفعل المُضارع في إحالته إلى ضمائر الغائب : هي / هو / هم دور في خلق هذا الانطباع ، ألهذا أتت على الانتقال بين اللوحة الأولى والثانية على التجاور لا على التفاعل ، ولتشم مُحفّزات القصّ بالتقصير عن القيام بدورها في دفع الحدث قدماً إلى الأمام ، في حين نجحت الثالثة في الاشتغال على مونتاج مُزدوج !؟
وهل تمنعنا المُلاحظات المُسلفَة من الإقرار بأنّنا كنّا في حضرة نصّ ماتع ، تجاوزت فيه الغضبان الخطاب الأنثوي الشعبويّ التقليدي ّ في شقيه ، المُتشكّي ظلم الشريك الرجل في أحد وجوهه ، أو المُتماهي به في نشدان حالة حبّ قد لا تتحقق بسبب من انعدام التماثل !؟
ثمّ ها هي الغضبان تحقق خاتمة تقوم على الإدهاش ، وذلك بالاتكاء على المُفارق والصادم ، لتهزّ - من ثمّ - وعينا ويقيننا العميقين ، ولتنجز لحظة الكشف والتنوير المُناطتين بالخواتيم عادة !
أمّا في نصّها الثاني الذي وسمته بـ " الـصنم " ، فلاشكّ أنّ تأويل الخطاب القصصيّ سيعوز القارىء أكثر ، إذ ما دلالة الصنم إن لم يشير إلى المعبود الذي صنعته يدا الإنسان !؟ وكيف يُقدم أحدنا على التعلق بصنم صنعه بيديه !؟ وهل الصنم - هنا - هو حقاً إله من صنع الإنسان ثمّ معبوده !؟ أم أنّ الغضبان تلعب على المجاز ثانية ، ولكن على نحو أكثر ذكاءً وإيحاءً !؟ وهل ثمة حاجة بعد إلى الإشارة إلى نجاحها في تخيّر عنوان مُفرد مرة أخرى ، بعد أن أثار عاصفة من الأسئلة ، لم نأت إلاّ على بعضها للتدليل على مدى التوفيق الذي حالفها في الاشتغال على الإحالة ، وذلك تحقيقاً للوظيفتين - السيميائية والمعرفية - المنوطتين بأي عنوان ، عبر جملة من الإشارات والعلامات التي تشي بفضاءات النصّ ، فتمهّد له كعتبة نصيّة أولى ، من غير أن تفضح أسراره كلّها دفعة واحدة ، ما كان سيودي بلعبة التشويق التي يقوم عليها ، ذلك أنّ العنوان يروم أساساً توريط القارىء في قراءة المتن ،لاستجلاء جملة الأسئلة التي أثيرت في ذهنه !
ثمة سارد يقوم بتقديم مسروده إذن ، فإذا به يقوم بتشكيل صنم بيديه على وله ، وذلك لكي لا يكون مصيره كمصير سابقيه الذين تحطموا على اليدين الصانعتين ذاتهما لعيب وجدتها العين الفاحصة هنا أو هناك ، ولأنّ الأنثى أكثر اكتمالاً في جمالها وفتنتها ، تخيرّه صنماً مُؤنثاً ، فأبرز ثدييه ، وراح يشتغل على زينته مُتمهّلاً ، ثمّ وضع أحمر الشفاه على شفتيه ، وأنشأ يدور حوله في ما يُشبه الابتهال ، بعد أن سجد له ! فأيّ صنم له هذه السيادة والهيمنة غير الآلهة !؟ أهو الفكرة إذ تلد على أيدينا ، ومن وحي مُخيّلتنا ، عندما تعترضنا حالة نبحث لها عن حلّ ، لتستبدّ بنا في ما بعد ، فلا نستطيع منها فكاكاً !؟ أم هو قانون وضعيّ نضعه لتنظيم حياتنا ، توخياً للسعادة ، فإذا بنا نقع في أسره ، وإذا بنا نتحوّل إلى مُُجرّد خدم له أو عبيد !
نصّ آخر ذكي ، مشغول بافتتان وتأنّ ليوحي ويومي ويُحيل ، فتتعدّد تأويلاته بتعدّد قراءاته ، فكيف نفذته القاصة فنياً !؟
وفي الإجابة سنتذكر بأنّنا إذ كنا نجيء على ذكر السارد ، إنّما كنّا نُحيل إلى بنية سرديّة تحدّد زاوية الالتقاط ، فطريقة التنفيذ ، لكنّها بنية سردية حداثوية استبدلت ضمير الغائب الذي أوكأت إليه نصّها السابق بضمير المُتكلّم ، في إحالة واضحة إلى الأساليب الحديثة في القصّ ، وحتى لاتختصم بنيتها تلك مع زمن متعاقب ، أي زمن تقليدي ، تسير سيالته من الماضي نحو الحاضر فالمُستقيل ، عمدت إلى الكشف المُتدرج عن متنها ، طلباً للتشويق ، ناهيك عن الاشتغال على ائتلاف العلائق وانسجامها بين عناصر القصّ ، وكما في قصتها الأولى ، أسندت لغتها إلى اقتصاد لغويّ صارم ، يقيها الترهل ، واقتربت بها نحو التعبيريّ الدال أكثر فأكثر ، لترسم علاقة أكثر اختصاراً مع مدلولها ، فلا تنأى عن التكيف الذي يتاخم حدود التبئير في قصيدة النثر ، ثمّ ها هي تفاجئنا - ثانية - بالشخصية المحورية في الخواتيم ، تصلي لصنم كانت قد صنعته بيديها ، وتدور حولها كحاج ، فتفارق المُقدّمات ، وتحقق الإدهاش الصادم في لحظة كشف وتنوير ، مُبينة زيف وعينا ، ما يطرح علينا التفكّر بوعي مُطابق ، ينبذ الازدواجية ، التي تشبه في أحد وجوهها مبدأ التقية الإسلامي !
[/justify][/justify]
__________________________________________
* عن مركز النور الألكتروني .
* محمد باقي محمد كاتب وأديب سوري .