من مكان إلى مكان
خواطر وتأملات / أيمن أبومصطفى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشعر هو ما عبر عن العاطفة باستخدام الكلمات التي تتناغم مع الحالة النفسية واللحظة الشعورية التي يمر بها الشاعر وقت إبداعه هذه الكلمات ، وما من شك في حاجة قارىء أو سامع الشعر لتمثل هذه اللحظة التي مر بها الشاعر , فالشاعر والقارىء شريكان في هذه اللحظة ، فلن ينفعل مع الكلمات إلا من لمس حرارتها حتى تقص له ما بها من معاني قد تغيب عن غيره , فعلى المتلقي أن يتمثل حالة المبدع كي ينعم بروح الشعر.
فما الكلمات إلا صور وشفرات لما اختفى وراء أستار القلب من عواطف وانفعالات ، وليست تأتي اعتباطا دون قصد ، فلكل شاعر معجم لغوي كونته ثقافته وموهبته ، فكل لفظ يكتبه المبدع إنما هو خلاصة تجربة مر بها ، وربما دار صراع بين الألفاظ التي تتزاحم في مخيلة الشاعر حتى يتصيد أحدها أو قل أكثرها ملاءمة لحالته ، فاقرأ الشعر بروحك فما الشعر إلا حديث الأرواح.
حاول البلاغيون الوقوف على جماليات الشعر فما استطاعوا ، فضرب كل واحد منهم بسهم وقال كفاني شرف المحاولة ، فما كتب البلاغة إلا محاولات لفهم هذا الجمال وسعي لوضع اليد على مطارحه في الأدب . فلا يذهب ظنك إلى أن جمال الشعر يرجع فقط إلى لفظه دون معناه ، أو معناه دون لفظه ، فإن الأولى دفعت بعضهم إلى الكلمات التي ما صيغت إلا لموسيقاها وجرسها . والثانية دفعتهم إلى شعر النثر أو كما يقولون قصيدة النثر .
فالشعر في الحقيقة كل لا يمكن نسبة الفضل لأحد أجزائه دون الجزء الآخر ، فهولفظ ومعنى وروح كما تجد النبات ورق وساق وجذور ونضارة . فإذا فصلت أحدهم عن الكل سقط الرونق وانهدم الجمال,فحينما تقرأ قصيدة ترى نفسك تطرب بأشياء تعجز عن معرفتها، هذه الأشياء هي الجمال ، الذي أجهد البلاغيون أنفسهم لتصويره لك فما استطاعوا ولن يستطيعوا . فنسبوه تارة للفظ وتارة للمعنى , وما هما في حقيقة الأمر إلا مظاهر للجمال .
فهناك قصيدة تجعلك تحلق في السماء , وأخرى تغوص بك تحت الماء وهكذا .......ألم يقولوا : "إن من البيان لسحرا"
حينما جلست أكتب هذه الكلمات ما كنت أخاطب إلا من أظن أنه يعرف قيمة العبارة ، ويدرك رونق الأسلوب ، فقد قيل " إن الأسلوب هو الرجل " وهو قول صائب بكل المقاييس ، فالإنسان الذي هذبه الشعر ، وثقفته القراءة ، وشغلته الأفكار ، وحيرته المعاني ، وداعبته الصور والأخيلة ، هذا الإنسان تشعر أنه ملاك عاش في الأرض ، فلا تخدعه الأموال ، ولا يشغل باله بأحاديث الناس ، فهو يعيش الواقع بقانون الخيال ، ويعاشر الناس بأساليب الشعراء ، ولذا تراه دائما يتلقى الصدمات تلو الصدمات ، لأنه يجد نفسه وحيدا شريدا يعيش في الغابة بقانون الشعر ، وما الشعر إلى تجسيد للأخلاق والأخلاق تتنافى مع طبيعة الافتراس ، ولذا تسمع ،أو تحس الأحزان في كلماته ، وتلمسها في نظراته ، وتلك هي حياة الأدباء.
الشعر – إذن – هو ما أشعرك ، ليس الشعر ألفاظا، وأوزانا فحسب ،ولست أرى ضرورة التقيد بالأوزان التي وضعها أو استنبطها الخليل بن أحمد ،فعلى الشاعر أن يبتكر أوزانا بشرط أن يلتزم بها خلال القصيدة، فلقد أصبحت الأوزان في زمننا هذا قيودا تحبس المعاني وتقف حائلا أمام المشاعر والانفعالات.
فالشعراء هم أمراء الكلام ، الذين يستطيعون أن يسوسوه كيفما شاءوا ، ولذا نجد المتنبي الذي أدرك بحسه عبقرية اللغة ، وقدرتها على الامتاع والإقناع – نجده يقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم.
ولما كان العرب أهلا للفصاحة والبيان ،أدركوا قيمة القرآن الكريم ، وأدركوا أن إعجاز القرآن لا يمكن أن يرجع إلى الألفاظ وحدها ، أوالمعاني وحدها ، أو الصور البلاغية (بيان )أو التراكيب ( المعاني)أو المحسنات( بديع)، وإنما أدركوا أن إعجازه قائم على هذه جميعا ،فهو لفظ حامل ، ومعنى قائم ، ورباط لهما ناظم ، القرآن الكريم لا يتوقف إعجازه عند حدود الكلمات ، وإنما يدرك ذو القلب السليم ، والعقل القويم ما وراء الألفظ من معاني متلاطمة كالأمواج ، لا يلبث المرء أن يقف على أحدها حتى يضع يده على الأخرى ،فتنسيه القادمة روعة السابقة ، وهكذا نحن في سباق مع هذه المعاني والدلالات ، ولذا تجد اختلاف التفاسير ، فكل منهم وضع يده على جانب من المعنى دون أن يدركه كله ، لذا فلا تراهم ينكرون على بعض قولا ولكن يقولون :" القرآن حمال أوجه ".
فإذا أراد المرء أن ينتفع بالقرآن ،فعليه أولا أن يجعل قلبه سليما مهيئا لتلقي هذا الشفاء الرباني ، وأن ينقي سمعه حتى يسمع بقلبه ،قال تعالى :"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
لما قرأت قوله تعالى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون"جلست أفكر ما سبب فوزهم ، فوجدتني أقرأقوله تعالى" لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون"
فقلت في نفسي : السبب هو تدبرهم للقرآن ، والعمل بما فيه ، وكأن الله تعالى في هذه الآيات يوبخ الكافرين ،بعدما دخلوا النار، ويقول لهم : ألم أنزِّل عليكم قرآنا ؟! هذا القرآن لو نزل على جبل لخشع الجبل ولان ، ولكنكم استكبرتم وقلتم " ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا تكذبون".
فحينما تسمع القرآن اسمعه بقلبك كي تنعم بآياته، وتلذ بنسماته ، فعش مع أهل الجنة إن قرأت آيات النعيم ، وتصور أهل النار إن رأيت صور الجحيم،لا تجعل المعاصي تقف أمام عينيك حاجبا ، واتخذ من الطاعات في زمن الفساد قاربا ، سر به وسط اللجج والرياح والأعاصير ، ولايجرمنك ما يقوله المبطلون ، فالناس لن يكفوا عن الكلام مادامت الأرواح تسري بالأبدان .
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا عني وما سمعوا من صالح دفنوا.
ربما عابوك أو لمزوك أو اعتدوا عليك فلا يضرك ما يقولون ، فلقد قالوا لمن هو أفضل منك ماهو أبشع مما قيل لك ، فقال له الله تعالى :"فلا يحزنك قولهم أنا نعلم مايسرون وما يعلنون". "فاصبر على ما يقولون"." وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " "فلا تك في ضيق مما يمترون" وللآخرة خير لك من الأولى " "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" .
ويمكن – بل لابد من ذلك – أن يصيبك شيء تظن أنه ضار ،ويقدر الله لك من بعده خيرا لا تعلمه ،فكلامهم أو سبهم ، يجعل ذكرك موصولا ، وللناس عقول تفكر، وأذهان تتدبر ، فكما هناك الضالمون هناك المنصفون، ولو يعلم حاسدك أنه ينفعك من حيث أراد أن يضرك ما نصق باسمك لسانه ، ولا فكر في أمرك جنانه، ولكنه أحمق يسلمك إلى من لا يظلمك ، فلن يجتمع الناس على باطل ، وتلك سنة الأولين والآخرين.
وما أجمل قول الشاعر :
وإذا أراد الله نـــشر فضيــــــــلة ** طويت أتاح لها لســـــان حسود.
فلولا اشتعال النار في ما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود.
فلولا اشتعال حريق في أحد الحقول – وهو شيء مكروه – ما عرف الناس رائحة البخور ، "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ".
أنا أعلم أني أجول بك من مكان إلى مكان ، ولكني أريد أن أمتعك وأمتع نفسي بالتفكر والتأمل في القرآن .
لا يمكن أن يكون إعجاز القرآن راجع إلى بلاغته فقط ، وإن كانت بلاغة القرآن معجزة ، فالأمي الذي يسمع القرآن يجد لذة وارتياحا ، بل إن الأعجمي الذي لا يعرف اللغة العربية يستمتع بالقرآن ، فالبلاغة عنصر من عناصر الإعجاز التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى ، من هنا ندرك معنى قوله تعالى " قل لئن اجتمت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" فلو كان الأمر أمر استعارات وتشبيهات وكنايات لما كان القرآن معجزا ، فما أكثر الاستعارات والتشبيهات في الشعر والنثر الجاهليين ، فمسيلمة الكذاب حيمنا ادعى النبوة ، جاء بكلام مسجوع به استعارات وجماليات ، ولكنهم لما سمعوه قالوا " إنك لتعلم أننا نعلم أنك لكذاب" .
فالعلماء على اختلاف تخصصاتهم يكتشفون كل يوم جديدا جاء به القرآن ، الأطباء والمهندسون والجيولوجيون وعلماء الطبيعة وعلماء الفلك ..........الخ. فالقرآن معجز في كل شيء ، معجز في لغته وطريقة نظمه ، كما أنه معجز لما فيه من علوم اكتشفها العلماء - حديثا – ومازال هناك الكثير والكثير وصدق قول المولى " سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" .
إذن فالعرب أدركت هذا جيدا ، فلم تعجزهم بلاغته فحسب بل إنهم عجزوا أن يأتوا بكلام جمع بين الإعجاز في مضمونه والاتقان في بلاغته ونظمه، فكل شاعر لابد وأن يجد في ديوانه بل في القصيدة الواحدة بعض الأبيات أو الكلمات التي لا يستحسنها ، أما القرآن فبلاغته قائمة من أول الحمد لله رب العالمين " إلى " من الجنة والناس" .
لذا فلقد سجل لنا التاريخ اعترافات المشركين وعلى رأسهم الوليد ابن المغيرة – وهو من هو في اللغة ومعرفة الشعر – حيث ذكرت كتب السيرة هذه الواقعة ، وسأنقل إليك ما ذكره صححب الرحيق المختوم يقول تحت عنوان:
المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة :
وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، [وإن عليه لطلاوة] وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك." وكذلك سجلت قصة إسلام لبيد بن ربيعة الشاعر المعروف ، لما استمع إلى آيات من سورة فصلت .
هذه بعض تأملاتي وخواطري كتبتها يوم الاثنين الرابع عشرمن شوال لسنة ألف وأربعمائة وسبع وعشرين من الهجرة النبوية المشرفة ،على صاحبها الصلاة والتسليم ، الموافق السادس من نوفبر لسنة ألفين وست ميلادية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيمن أبومصطفى(أبومحمد)