" بسم الله الرحمن الرحيم "
" حتى تكتمل الرواية "
بقلم / وليد جودة
( 1 )
- اسمك ، وسنك ، وعنوانك ... ؟
- حافظ إبراهيم جاد الحق ، واحد وأربعون سنة ، وأسكن فى البناية الخامسة ، شقة " 13 " ، عمارة " 7 " ، ضواحى مصر القديمة .
- السيد حافظ ... أين كنت ليلة أمس فى الساعة الثانية عشر مساءً ؟.
- ليلة أمس ... ؟ لقد كنت فى العمل حتى الساعة الثامنة مساءً ، ثم ذهبت إلى المنزل ، ولم أخرج منه حتى الصباح .
- هل عندك شهود على ذلك ؟
- نعم ، زوجتى ، فلقد تناولت معها العشاء ، ثم ذهبت فى نوم عميق ، بعدما احتفلنا سوياً بعيد زواجنا الخامس عشر .
- السيد حافظ ... ما علاقتك بالسيد توفيق ذهنى ؟
- توفيق ذهنى ؟! ... لقد كانت بيننا شراكة ، ولكنى أنهيتها بسبب الخلافات الدائمة بيننا .
- لقد قلت خلافات ، ما نوعية هذه الخلافات ؟ وما سببها ؟
- إنها مجرد خلافات فى العمل ؟ فكان دائماً يصر على أن يتصرف بتفكيره الأهوج دون مشورتى ، مما أدى إلى خسارتنا المالية المتلاحقة ، ولهذا فقد أنهيت تلك الشراكة .
- السيد حافظ ... هل سبق منك أن هددت السيد توفيق ذهنى بالقتل ؟
- لا ، بل نعم ... ولكنها كلمات مجرد كلمات عاجزة ، فلقد كنت منفعلاً بعض الشئ ، كما أنه الآخر هددنى .
- السيد حافظ ... أنت متهم بقتل السيد توفيق ذهنى ، فما أقوالك ؟
- أنا ........ ؟ أنا لم أقتل أحداً ، إنه ادعاء كاذب .
- ولكن ماذا تقول فى السكين التى وجدناها ملوثة بدماء المجنى عليه ؟ وتحمل بصماتك ؟
- سكين ... ، أنا لم أقتله ، أقسم لك أنى لم أقتله .
- الإنكار لن يفيدك ، كل الأدلة تقول أنك القاتل ، يبدو أنك لم تخطط جيداً لجريمتك ، ولذلك نسيت أداة الجريمة فى مكان الحادث ، ويبدو أنك لم تستطع التماسك مما أدى إلى سقوط نظارتك منك فى مسرح الجريمة ، أليست هذه نظارتك ؟
- نعم نظارتى ... ولكن ما الذى أتى بها إلى هنا ؟!
- وهذه الورقة ما الذى أتى بها إلى هنا أيضاً ؟!
- ورقة ... أى ورقة ؟!
- لقد وجدنا هذه الورقة فى أحد أدراج مكتب السيد توفيق ذهنى ، وهذه الورقة تحمل تهديداً له بالقتل ، هذه الورقة مكتوب فيها " سوف أقتلك ، إن لم تبتعد عن طريقى فلسوف أقتلك ، ولن أدعك تعيش يوماً واحداً بعد اليوم ، نعم سوف أقتلك حتى يرتاح قلبى ، وينعم بالى " ، أليس هذا خطك ؟ أليس هذا كلامك ؟
- نعم هذا خطى ، ولكنى برئ ، أقسم لك أنى برئ .
- ولكن هناك شهود على أنك هددته بالقتل أكثر من مرة .
- أقسم لك أننى لم أقصد قتله بتلك الكلمات الضعيفة ، هذا ما حدث ، صدقنى .
- تم قفل المحضر فى ساعته وتاريخه ، وقررنا نحن حبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق .
* ـــــــــــــــــــــ *
( 2 )
قام أحد الحراس ، ووضع الأساور الحديد فى أيدى حافظ ، واصطحبه معه حتى وصلا إلى غرفة ليست لها أى معالم سوى ذلك الباب القديم ، والذى يحمل من الخارج أقفالاً كثيرة ، قد أثقلت ظهره ، وجعلته يتألم فى اليوم الواحد ألف مرة ، وليس هناك من يخفف عنه آلامه سوى تلك الفتحات ، القضبانية الصغيرة فى أعلاه .
وضع الحارس حافظاً فى تلك الغرفة بعد أن جرده من أساوره وانصرف ، فاستلقى حافظ على الأريكة الخشبية ، والتى فقدت إحدى أقدامها فى إحدى المعارك مع شخص ثقيل عتىّ اعتدى عليها بالقعود مرة واحدة ، فأصاب قدمها ، ومنذ ذلك الحين وهى عرجاء لا ترتاح أبداً ، ولا تريح من يجلس عليها .
جلس السيد حافظ فاقداً لوعيه ، لا يستطيع جمع أفكاره ، وظل ينظر فى الغرفة المظلمة ، فلم يجد سوى أن جدرانها وكأنها لوحة إعلانات ، عليها أسماء شتى ، وكلمات متقطعة تخرج من بين شفتى السيد حافظ واللتان عجزتا عن الكلام ، وأخذ يردد بصوت خافت حزين لا يسمعه إلا هو : " إنى برئ ، لم أقتله ، لم أقتله " .
ظل السيد حافظ على هذه الحال ، حتى سمع صوت الباب يأذن بدخول أحد الزوار ليشاركه القعود على تلك الأريكة المسكينة ، والتى لا تستطيع أبداً أن تحمل السيد حافظ ، حتى جاء ضيف آخر ليجعل واجبها أثقل بكثير .
دخل عليه فى هندامه القديم السيد صابر المغربى ، صديق عمره والذى يعمل بالمحاماة منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً ، والذى يشبه كثيراً الأريكة العرجاء صاحبة الأرجل الثلاث نظراً لعكازه الذى يرافقه طيلة يومه ، ولا يفارقه إلا عند النوم .
بدأه صديقه بالكلام قائلاً :
- لم فعلت هذا ، لقد حذرتك كثيراً ، ولكنك لم تفهم .
- حتى أنت تقول ذلك ، والله لم أقتله ، لم أقتله .
- ولكن كل الأدلة تقول بأنك القاتل : السكين ، النظارة ، والورقة ، وذلك كله بجانب تهديدك له المسبق بالقتل .
السيد حافظ ، وبصوت عال ، وانفعال زائد .
- صدقنى لم أقتله ، لم أقتله .
- اهدأ وسوف أسمع لك ، احك لى ما حدث حتى أستطيع أن أساعدك .
حاول السيد حافظ أن يجمع تلابيب ذهنه ، وأخذ يحدث محاميه عما حدث ، ولكن الدموع سالت من عينيه وأخذ يبكى ، حتى قام السيد صابر من مكانه ، والذى مكث فيه منذ أن أتى ، وأخذ يهدأ من روع صديقه ، ويمسح بمنديله المزركش دموع حافظ ، ويطلب منه أن يحدثه قائلاً :
- تماسك يا صديقى ، وحدثنى بما حدث ليلة أمس ، ولا تقلق فسوف يظهر الله الحق ، ويظهر براءتك .
- لقد كنت فى المكتب حتى الساعة الثامنة مساءً ، وكنت مشغول للغاية حتى جاءنى اتصال من زوجتى تطلب منى أن آتى إلى المنزل حتى نحتفل سوياً بعيد زواجنا .
- وهل ذهبت فعلاً ؟
- نعم ، ذهبت إليها ولكن بعد أن ذهبت إلى إحدى المحلات المجاورة ، واشتريت لها رداءً أبيضاً ، كان قد أعجبنى فأحببت أن أهديه إليها .
- كم كان الوقت بين نزولك من العمل وذهابك للمنزل ؟
- لم يتجاوز النصف ساعة ، فلكم اشتقت إليها كثيراً ، وإلى الاحتفال بهذا اليوم .
- الهذه الدرجة تحبها ؟
- نعم ، أحبها .
- وهى؟ !
- أوجئت إلى هنا لتحدثنى عن الحب ؟ !
- أجب عن سؤالى ، وستعرف كل شئ .
- نعم هى الأخرى تحبنى .
- إذن ، وماذا حدث بعد أن ذهبت إلى المنزل ؟
- لم يحدث شئ يذكر سوى أننا كنا أسعد زوجين فى هذه الدنيا ، وسط مراسم الاحتفال الذى لم يكن فيه أحد سوى أنا وهى ، والشمعتان اللتان توسطتا الكعكة التى صنعتها لى زوجتى ، كان يوماً سعيداً جداً ، حتى استيقظت على هذا الكابوس اللعين .
- أتتذكر متى انتهى هذا الحفل الرومانسى بينكما ؟
- بعد أن احتفلنا ، خلدنا للنوم سوياً ، حتى غرقت فى النوم ، فلقد كنت منهكاً فى العمل طيلة النهار ، واستنفد الحفل كل قواى الباقية ، فلم أشعر إلا وهى توقظنى فى الصباح لتناول الإفطار .
- قلت لى أن زوجتك تحبك ؟
- نعم تحبنى ، ولكن لماذا كل هذه الأسئلة الباردة ؟ وما فائدتها فى هذا الموقف ؟!
- يجب أن تعلم أن زوجتك .... أقصد حبيبتك قد أنكرت أنك كنت معها ليلة أمس .
- أنت كاذب ، كاذب .
- لم تنكر هذا فحسب بل قالت أنك ومنذ يومين تخطط لجريمتك هذه ، وقالت بأنها قد حذرتك كثيراً ، ولكنك لم تسمع لها ، هذا ما قالته صدقنى ، أو لم تصدقنى .
- لا ، لم تقل ذلك ، إنك تريد أن تجعلنى أنهار ، حتى اعترف لك ، ولكنى لم أقتله ، وكنت بالفعل فى المنزل ليلة أمس ، صدقنى ، يجب أن تصدقنى .
- ولكن لماذا قالت زوجتك هذا عند الإدلاء بأقوالها ؟!
- هذا ما لا أعرفه ، إننى فى كابوس مخيف ، ويبدو أننى لن استيقظ منه أبداً .
* ــــــــــــــــــــــــــ *
( 3 )
- هدأ الصوت ، وإذا بصوت الباب يأذن بخروج الزائر الوحيد ، والأريكة العرجاء تتنفس الصعداء بعدما خف الثقل من عليها ، وأصبحت الأريكة تحمل شخصاً واحداً منغمراً فى حزنه ، بائساً فى مضجعه ، على حين تنعم أريكة أخرى – تسكن البناية الخامسة ، شقة (13) ، عمارة (7) ، ضواحى مصر القديمة – بسيدتين ذاتا جمال باهر ، احداهما ممتلئة الجسم ، ويبدو عليها الحزن ، أما الأخرى فصاحبة عينين خضراوين ، ترتدى رداء أبيضاً ، وكأنها فى ليلة عرسها ، ولا شئ يأرقها ، ولا هم يعكر صفوها ، تمسك بفنجان من القهوة ، وتقربه من شفتيها فتقبله تم تعيده فى مكانه مرة أخرى ، حيث يجلس بجوار فنجان آخر يبدو عليه أنه توأمه ، وهو كما هو ممتلئ عن آخره ، تفوح منه رائحة البن البرازيلى الفاخر .
المكان ينعم بالهدوء والسكون التام ، سوى صوت الفنجان وهو يسلم على شفتى السيدة صاحبة الرداء البيض ، والسيدة الأخرى ما زالت غارقة فى صمتها ، وكأنها تفكر فيما تريد قوله ، حتى استدارت فى جلستها متوجهة بالحديث إلى صاحبة الرداء الأبيض قائلة :
- ما الذى قلته فى النيابة اليوم ؟! أهذه هى الحقيقة ؟
- الحقيقة ؟! .... لقد خاب ظنى فيك ، وفى ذكائك ، أنت صديقتى منذ عشرين سنة ، وحتى الآن لم تستطعى أن تتفهمين ما أفكر فيه ؟
- وما الذى تفكرين فيه ؟
- بالطبع أن أتخلص منه .
- إذن ما قلتيه فى شهادتك لم يحدث بالفعل ؟
- نعم ، ما قلته لم يحدث ، فليلة الأمس كان بين أحضانى ، ولم أغفل عنه ساعة واحدة ، نائم وهو يظن أن بجواره جارية تهواه ، هو أيضاً غبى ، لم يستطع أن يتفهم ما أفكر فيه .
- ولم قلتى هذا ؟
- ألم أقل لك حتى أتخلص منه ؟
- وأنت تعلمين أنه برئ ؟!
- نعم ، وأنا أعلم أنه برئ ، كما أعلم من القاتل أيضاً .
استدارت السيدة الحزينة مرة أخرى فى جلستها متوجهة هذه المرة بالحديث إلى فنجان قهوتها ، وقربته من فمها لتقبله قبلة حزينة ، ثم عادت بحديثها إلى صاحبة الرداء الأبيض قائلة :
- ومن القاتل ؟!
- القاتل .... ؟ إنه زوجك .
- زوجى ؟! أنت تكذبين ، يا لك من كافرة .
على صوت السيدة صاحبة الرداء الأبيض بالضحك وهى تقول :
- وهو أيضاً كاذب ، ألم يقل لك أنه يحبك ؟
لقد خططت أنا وهو كثيراً لكى نتخلص منكما مرة واحدة ، وبعد أن ينزل الستار ، يصفق الجميع لنا ، وحتى تكتمل الرواية فسوف أخبرك بما حدث ، منذ زمن ونحن نخطط لذلك ، ولكنى آثرت أن تبقى النهاية بعد الاحتفال بعيد زواجنا أنا وزوجى المسكين ، والذى صدق كل هذه المظاهر الخادعة ، حتى نام فى فراشه وهو يظن أنه أسعد زوج فى الكون ، وما أن غرق فى نومه ، حتى أخذت إحدى نظاراته ، والسكين التى قطع بها كعكة الأمس ويدى تقبض على يده ، بعد أن وضعتها فى كيس حتى تظل محتفظة ببصمات أصابعه الرقيقة ، ويا لحسن الحظ ، فلقد كان ومنذ فترة منشغلاً بكتابة آخر قصصه ، والتى تعلمت منها الكثير ، فأخذت منها تلك الورقة ، ولقد تعبت كثيراً حتى أستخرجها من بين تلك الأوراق الكثيرة المتراكمة فوق مكتبه .
" سوف أقتلك ، إن لم تبتعد عن طريقى فلسوف أقتلك .... "
كم هى جميلة ، وكأنها مكتوبة خصيصاً لهذا الموقف .
شعرت السيدة الحزينة ، وكأنها وقعت فى بئر مظلم ، وأخذت ترتعش ، وهى مطبقة على فنجانها وتقربه من فمها ثم تعيده مكانه دون أن تقرضه أى قبلة ، حتى تماسكت أعصابها مرة أخرى ، بعد أن أخذت رشفة كبيرة من الفنجان ، وقالت للسيدة صاحبة الرداء الأبيض :
- وما دخل زوجى فى هذه الرواية الحقيرة ؟
- زوجك .... ؟ إنه بطلها ، لقد جاءنى عند الساعة الحادية عشر كما اتفقنا ، وأخذ السكين والنظارة والورقة ، ووضعهما فى حقيبة صغيرة ومضى لتوه إلى مسرح الجريمة ، لينفذ دوره المتفق عليه ، ولقد أدى دوره ببراعة فائقة ، فقتل السيد توفيق ذهنى ، ثم لوث السكين بدمائه ، ووضعها بجانبه ، ورمى النظارة ، ووضع الورقة فى أحد أدراج مكتبه ، وخرج من هناك دون أن يراه أحد ، حتى تكون الجريمة كاملة ، ويذهب زوجى للجحيم .
كانت السيدة الحزينة مندهشة بما تسمع ، ولا تعبر بشئ شوى أن تشرب قهوتها ، وعندما فرغ الفنجان ثارت فى وجه صاحبة الرداء الأبيض قائلة :
- ولكن الجريمة سوف تكشف ، ولن تصبح كاملة ، فلسوف أذهب إلى المحقق ، وأحك له كل ما قلتيه الآن ، وتذهبون أنتم إلى الجحيم فأنتم أحق به .
- لا ، بل سوف تذهبين أنت ، كلها عدة ثوان ولن تستطيعى النطق بكلمة واحدة بعد أن شربت هذه القهوة المسمومة ، وأنا متأكدة أنها أعجبتك كثيراً ، أليس كذلك ؟
لم تستطع السيدة الحزينة أن تتكلم بكلمة واحدة ، وسقطت على الأرض ، وهدأ الجو ، وعم السكون المكان ، فلا يسمع صوت سوى غمغمة السيدة الحزينة وهى تفارق الحياة ، ليس من السم فحسب ، بل من وقع كلمات صاحبة الرداء الأبيض .
قامت صاحبة الرداء الأبيض من مكانها ، تحاول أن تحمل السيدة الحزينة من مكانها ، بعد أن وضعت الفنجان فى كيس من البلاستيك لتخفيه فى أى مكان ، ولكنها لم تستطع لثقل السيدة الحزينة ، فجلست تنتظر عشيقها وشريكها حتى يساعدها فى التخلص من جثة زوجته ، ولكنه لم يأت بسبب دقات تلك الساعة الصغيرة ، والتى تجلس فوق منضدة صغيرة بجوار سرير السيد حافظ .
أخذت الساعة تدق بصوتها المعهود ، فقام السيد حافظ من نومه ، وطبطب بيده على رأسها فسكتت ، ثم أيقظ زوجته بقبلة سريعة على جبهتها ، وبعد أن تناول الطعام من يدها كما عودته ، خرج إلى عمله بعد أن ودعها بقبلة أخرى ولكن هذه المرة ليست على جبهتها ، فودعته هى الأخرى بقبلة مماثلة .
وبعد أن اختفى صوت أقدامه ، دخلت تنقب عن ورقة تشبه ورقة الحلم ، فما أن وجدتها ، حتى أخذت إحدى نظارات زوجها من أحد أدراج مكتبه ،وأخذت السكين , ووضعتهم جميعاً فى حقيبة يدها ، بعد أن تأكدت من وجود زجاجة السم فى مكانها فى أحد أدراج المطبخ ، لتجعل من حلم الأمس حقيقة للغد حتى تكتمل الرواية .
* أبوعدنان *
مارس 2010م