- فزع من نومه ! كابشا بيده عنقه , يتصبب عرقا , تكاد عروقه تنزف جراحا و ألما , يلهث بشدة ثم يستدير حوله بالمكان , فلم يجدها بجانبه , ينتفض باحثا عنها فى جميع أركان الحجرة وبين جدران المكان , يفكر ربما أضاعها منه , أو ربما ضلت الطريق فى ظلمة ليل قاتل , أو ربما كان السبب فى هروبها من بين يديه , فلقد ظل أمدا حابسا لها , كاتما لحريتها , سالبا إرادتها , فباتت دفينة حجرته فقط .
- لم يجد سوى كرسيه المفضل ليجلس عليه ويسكنه طريدا لأفكاره ووساوسه , لا يجد سوى الدموع ونيسا له ولأحزانه , قابضا رأسه بين كفيه , مطاطيا رأسه خجلا مما فعله فيها .
- وفجأة انتفض مرة أخرى ! لقد سمع صدى صوتها يناديه :
" أتتركنى أضيع من بين يديك , ألا تفتش عنى , أتظل ساكنا ذلك الكرسى اللعين , أتظل رابضا جدران حجرتك بعيدا عنى ؟ "
- تذكر كل كلامها إليه فيما مضى , وإلحاحها المكرر فى انطلاقها نحو عالم جديد متفتح بما تمتلكه من قدرات وقوة تجعلها أكبر من من سكونها بين أربعة جدران فى زوايا منعطف صغير , أو تحت سقف واحد لا ترى سواه .
- قرر الخروج إلى الشارع للبحث عنها , لم يترك ثغرة إلا وفتش فيها , ودفن نفسه بين أغوارها , فبحث عنها فى زحام المدينة وفى أحضان الريف , فى سكون الليل وبين همس العاشقين , فى أضواء النهار الكاشفة وبين ضجيج الصاخبين , سكن المساجد بالشهور , جالس العلماء والفقهاء , خرج إلى الملاهى وخالط أصدقاء السوء , ترنحت أفكاره , فمدد جسده ما بين روائح المسك وفوائح الخمور .
- شقت أقدامه الغابات , جوالا عبر الأشجار , جالسا على ضفاف النهار , غواصا بين الأمواج , راكضا تحت الأنقاض , حائرا بين الأغراض , لا يعبأ بما تفعله به الأقدار , إلى أن انقضت الأيام والشهور دون العثور عليها , حتى تطاولت الشهور إلى السنوات الكاملة .
- يفكر .. ماذا يفعل بعد كل ما أمضاه من عمره باحثا عنها ؟ يخشى رفقة الخريف بمفرده , فقد احتسى كؤسا من الهم والعذاب دون أمل .
- وفى إحدى الليالى وقبل نزوح الربيع من بين أقدامه - كان يسير بمفرده محتضنا ظلمة الليل وسكونه , تائها بين الطرقات , ساحبا خيوط الماضى وراءه - شاهد امرأة آتية من بعيد تشابه فتاته التى ضلّ عنها منذ أمد بعيد, فهرول نحوها ووقف أمامها محدقا فيها بقوة , صامتا صمتا عميقا , محاولا استرداد أنفاسه من جديد .
- وبلحظة تحمل كل معانى العشق همس لها قائلا :
أنت ؟ .. لقد ظللت طويلا أبحث عنك يا فتاتى .
هى : طلبت منك أن تفتش عنى .
هو : بحثت عنك طويلا .
هى : بعد أن أضعتنى من يدك .
هو : كنت تائها فى حيرة أفكارى , حبستك وأنا غير راض عن حالى .
هى : فلنبدأ الآن .
- فى تلك اللحظة تساقط المطر وتساقطت ورقة من أوراق الخريف , فنظر إلى السماء مبتسما , رافعا يده إليها مبتهلا :
" أيها الخريف .. انتظر .. لا تسقط أوراقك الآن .. دعنى أستمتع بربيع عمرى وبلهفة أشواقى عليها , اتركنى أنثر ورودى فى كل مكان , اتركنى سعيد الحظ مبتهج البال . فالآن وجدتها .. الآن فقط أستطيع أن أحتسى كأس السعادة والهناء , الآن أحتفى بقدومها إلىّ , الآن أحتفى بقدومك أيتها الذات . فالآن فقط قد عثرت عليك " .